سوريا وإسرائيل.. تقاطع استثنائي في المصالح عند نقطة واحدة!

TT

إن هذه هي سوريا، فبينما كان هناك انتظارٌ للرد على اغتيال قائد الجهاز القتالي في حزب الله عماد مغنية في قلب دمشق قبل نحو شهرين، الذي اتهمت المخابرات الإسرائيلية باغتياله، وبينما أصداء قيام سلاح الجو الإسرائيلي في السادس من سبتمبر (أيلول) الماضي بتدمير منشآت سورية، قيل إنها نووية، في منطقة دير الزور لم تتلاش بعد، جاء ذلك الإعلان أولاً على لسان وزيرة شؤون المغتربين بثينة شعبان، ثم على لسان الرئيس بشار الأسد نفسه، بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولميرت أبلغ وسيطاً، ثبت لاحقاً أنه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أنه على استعداد لإعادة هضبة الجولان «كاملة» مقابل توقيع اتفاقية سلام مع سوريا.

وخلال زيارة رئيس الوزراء التركي الأخيرة إلى دمشق، التي كانت بالأساس زيارة اقتصادية، ثبت أنه كانت هناك وساطة تركية بين سوريا وإسرائيل. وقال الرئيس السوري إن هذه الوساطة بدأت بعد حرب يوليو (تموز) عام 2006 مباشرة لكن لم يثبت حتى الآن، وقد لا يثبت لا في المستقبل القريب ولا البعيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي وعد فعلاً بإعادة هضبة الجولان «كلها» إلى السوريين بدون أيِّ شروط وفقط مقابل توقيع اتفاقية سلام مع الحكومة السورية.

وحقيقة، وحسب معلومات متعددة المصادر، فإن الاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين السوريين والإسرائيليين لم تتوقف في أيِّ يومٍ من الأيام، وأن الوسطاء على مستوى الأفراد والدول بقوا يتحركون بين الطرفين حتى عندما كانت إسرائيل تقوم باستفزاز سوريا، ربما لأسباب داخلية تتعلق بالصراعات المعهودة بين الأحزاب الإسرائيلية، كاختراق حاجز الصوت فوق قصر الرئيس بشار الأسد في القرداحة والإغارة على قاعدة لمنظمة فلسطينية في منطقة عين الصاحب إلى الشمال من دمشق.. وتدمير المنشآت التي قيل إنها نووية في منطقة دير الزور، وأخيراً اغتيال عماد مغنية في قلب العاصمة السورية كانتهاك صارخ لسيادة دولة تعتبر نفسها دولة «ممانعة ومقاومة». في السابق، وهذا كان حتى قبل وصول الرئيس حافظ الأسد، رحمه الله، إلى الحكم كان يقال إن سوريا تمارس السياسة كالسائق الذي يضع مؤشر سيارته الضوئي «الغماز» نحو اليسار لكنه عندما تحين لحظة تغيير المسار ينعطف بها نحو اليمين، ولذلك فإن الذين يعرفون هذه الحقيقة ويعرفون أن ممارسة السياسة في هذه الدولة العربية الشقيقة والعزيزة تشبه إبرام الصفقات والبيع والشراء في سوق الحميدية لا يستغربون رفع دمشق لراية «الممانعة والمقاومة». وفي الوقت ذاته فتح كل طرق الوساطات والاتصالات المباشرة وغير المباشرة مع «الكيان الصهيوني.. الغاشم واللعين».

بعد حرب يوليو عام 2006، ساد إحساسٌ جرى ترويجه رسمياً من خلال تلويح بعض المسؤولين السوريين به وإطلاق بعض التصريحات حوله ومن خلال ما كتبه بعض الكتاب والصحافيين الذين اعتادوا هزَّ أردافهـم في مثل هذه المناسبات «القومية والثورية» بأن سوريا، بعد تجربة حزب الله «وانتصاره الإلهي». وبعد أن فقدت الأمل في إمكانية إبرام أي اتفاق سلام مع إسرائيل من دون اللجوء إلى التسخين والضغط العسكري، قررت اللجوء إلى حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد وهي بناءً على هذا عقدت العزم على تحويل اقتصادها ومجتمعها إلى ما يتلاءم مع هذا التوجه الذي سينتقل إلى حيز التنفيذ خلال فترة قريبة.

كان عرس «الانتصار الإلهي» في ذلك الحين في ذروته وكان الذين حاولوا دفع الرئيس بشار الأسد إلى مغامرة غير مضمونة العواقب يقولون انه إذا كان حزب الله بتواضع تسليحه وبميليشياته المحدودة العدد ألحق بإسرائيل كل هذه الهزيمة التاريخية!! فكيف إذاً سيكون الحال إذا جرى حل الجيش السوري بكل فرقه وفيالقه وقواته «المجوْقلة» وتحويله إلى وحدات عصابات مقاتلة وزمر مقاومة تستدرج الجيش الإسرائيلي النظامي إلى حرب شعبية طويلة الأمد في الجولان، وربما أيضاً في دمشق وحمص وحلب!!.

وبالطبع، فإن بشار الأسد، الذي هو سر أبيه، حاول الاستفادة من موجة

«الانتصار الإلهي» هذه، وحاول إشعار الإسرائيليين لتليين مواقفهم في مفاوضات كانت جارية ومتواصلة عبر الوسطاء وغير الوسطاء، كما قال هو نفسه، قبل زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى دمشق وخلالها وبعدها، بأنه ذاهب إلى تجربة كتجربة حزب الله.. لكنه في النهاية ولأنه يعرف ما سيترتب على مغامرة كهذه المغامرة ما لبث أن أغلق هذه النافذة بصورة نهائية.

قبل أيام تطرق المعلق الإسرائيلي جاكي حوجي في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية المعروفة إلى ما سماه «تقاطعا استثنائيا في المصالح بين إسرائيل وسوريا»، وهو قال إن هذا هو سبب التزامهما الصمت الرسمي حيال حادثة قصف المنشأة «النووية» السورية في دير الزور وعدم إعلان دمشق نتائج التحقيق بالنسبة لاغتيال عماد مغنية، فالأسد لا يريد تسليط الأضواء على هذه الأمور حتى لا يحرج نفسه أمام شعبه ويصبح مضطراً إلى الرد وأولميرت الذي رفض طلباً أميركياً خلال حرب عام 2006 ولم يهاجم سوريا كما رغب الرئيس جورج بوش وإدارته، لا يريد حرباً ستكون نتائجُهَا مفتوحة على شتى الاحتمالات، وبخاصة أنه ذاهب إلى انتخابات حاسمة العام المقبل. لم يستجب أولميرت للرغبة الأميركية ويهاجم سوريا خلال حرب يوليو عام 2006 لأنه مثله مثل معظم القادة الإسرائيليين لا يريد إضعاف نظام الرئيس بشار الأسد لحساب ومصلحة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية النائمة المتطرفة التي قد تكون هي البديل الذي لا بديل غيره في ظل عدم وجود معارضة سورية حقيقية ديموقراطية، وهو، أي رئيس الوزراء الإسرائيلي ولأنه أيضاً بات يراهن على نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة التي غدت على الأبواب، فإنه استجاب للوساطة التركية وقبِلَ بتحريك مسار السلام على جبهة الجولان من قبيل التلاعب بعامل الوقت.

وكذلك فإن الرئيس الأسد، الذي تجنب مغامرة الحرب الشعبية الطويلة الأمد التي ساهم الإيرانيون في محاولات دفعه إليها لأسبابهم الخاصة، والذي تحلَّى بـ«روح رياضية» عالية إزاء كل الاستفزازات الإسرائيلية، استقبل هو بدوره الوساطة التركية وكأنها هبطت عليه من السماء، فهو أيضاً بحاجة إلى التلاعب بعامل الوقت من الآن، وحتى الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وهذا معناه أن هناك تقاطعا استثنائيا في المصالح بين سوريا وإسرائيل بالفعل، وأن هذا التقاطع هو الذي يجعل الرئيس بشار الأسد ويهود أولميرت يتجنبان المواجهة العسكرية التي تريدها أميركا ويرغب فيها الرئيس بوش، وهو أيضاً الذي يجعلهما يستقبلان الوساطة التركية بكل هذا الحرص وكل هذا الحماس.. فكل واحدٍ لهُ حساباتهُ و«تكتيكاتهُ»، لكن بالنتيجة فإن مصالحهما تلتقي عند نقطةٍ استثنائيةٍ واحدةٍ.