البطالة وتهديد السلم الاجتماعي في البلدان العربية

TT

تركز معظم المقاربات التي تحاول تفكيك الأشكال الاحتجاجية، التي ظهرت في السنوات الأخيرة في العالمين العربي والإسلامي والتي اتخذت طابعا عنيفا شكلا وفكرا، بأن ظواهر الاحتجاج تلك، هي نتاج حالة المعاداة التي عبرت عنها أحداث سياسية عمقت شعور المسلمين بالاستهداف والإهانة والاعتداء على رموزه الدينية والثقافية. بل إن بعض أصحاب هذه المقاربة، يذهبون إلى الأقصى ويربطون كل أشكال الاحتجاج بالعامل الحضاري الواسع ولا يعترفون بتفسيرات تخرج عن دائرة القضية الفلسطينية وغزو العراق والحرب المعلنة منذ تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الإرهاب. بالإضافة إلى قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكل هذه التفسيرات كما نلاحظ هي ذات بعد حضاري ثقافي محض. وقد وجدت رواجا وتبنيا حتى لدى النخب السياسية العربية الحاكمة التي يبدو أنها وجدت مصلحتها في هذه المقاربة.

ولكن إلى أي حد تبدو هذه المقاربة وحدها قادرة على الإفحام والإقناع وإسقاط المقاربات الأخرى؟ وهل إنه بالرجوع إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية خصوصا فئة الشباب، ستتمكن هذه المقاربة الأحادية الأفق والتفسير من الصمود طويلا أمام الحقيقة التي نبحث عنها وتجعلنا نضع الأمور في نصابها؟ إن وضع هذين السؤالين في إطار استعداد العالم للاحتفال الخميس 1 مايو بالعيد العالمي للشغل، قد يضفي قدرا لا بأس به من النسبية على المقاربة ذات البعد الحضاري الديني دون سواه. ذلك أنه لا شك في دور العامل الديني في إنتاج العديد من الأشكال الاحتجاجية، باعتبار أن الدين جزء من الظاهرة الاجتماعية ككل، ولكن إثقال كاهل هذه المقاربة بما يتجاوز طاقتها المنطقية، سينتهي بنا إلى المغالطة ومجانبة الواقع. وإذا ما أردنا استنطاق الأرقام والإحصائيات، فإنه حتما ستتحول وجهة الفهم لدينا نحو تفسيرات أخرى ذات طابع مادي واقتصادي أكثر قدرة على تفسير أسباب ظهور العديد من الأشكال الاحتجاجية العنيفة كالعمليات الانتحارية والارتماء في أحضان ثقافة الموت والانغلاق وزعمائها. لقد أصبح المعدل العام للبطالة في المنطقة العربية منذ سنوات طويلة الأعلى بين مناطق العالم، حيث بلغ أكثر من نسبة 14 في المائة وتشمل بالخصوص فئة الشباب والمتعلمين وحديثي التخرج. وكما نعرف يصف علم النفس الشاب العاطل عن العمل بأنه يعاني من عدم التوافق الاجتماعي وبالشعور بالاضطهاد، فيدفعه واقعه الاقتصادي إلى القيام ببعض الأشكال الاحتجاجية. وفي أبسط الحالات فإن الوضعية الاقتصادية للعاطل تجعله ذاتا هشة، يسهل اختراقها والتأثير عليها سلبا، وذلك بحكم عدم التوافق النفسي والاجتماعي الذي يعيشه. وبالنظر إلى حجم البطالة المتفشية في المجتمعات العربية وضيق الأفق بالنسبة إلى الشباب الذي يريد أن ينعم بحقه في حياة تحفظ له كرامته الإنسانية وأيضا إثبات ذاته وتحقيقها في مجال العمل، فإن الواضح هو أن واقع العمل في بلداننا يعيش أزمة حقيقية والأكثر عمقا على مستوى العالم. فالشباب بوصفه مصدر قوة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والأساس الصلب للمشروعات الاقتصادية يعد ثروة غير منتفع بها ورأس مال رمزي مهدور، الشيء الذي جعل من بعض الشباب قنابل موقوتة داخل المجتمع، تهدد السلم الاجتماعي بشكل حقيقي وخطير.

ورغم أن مشكلة البطالة هي مشكلة عالمية تعاني منها حتى الدول الكبرى والقوية اقتصاديا، فإن الحجم الذي بلغته في البلدان العربية مقارنة بثرواتها الطبيعية، يعود في جزء كبير منه إلى تجاوزات وإلى أطراف، تتحمل مسؤولية تعميق أزمة البطالة. من ذلك قصور أغلبية الحكومات العربية في ابتكار حلول مغرية وذات جدوى في توسيع آفاق سوق الشغل بالإضافة إلى القطيعة الموجودة بين المنظومة التربوية التعليمية واحتياجات سوق الشغل، وهو ما يعني أن العقل المفكر في الإشكاليات الطارئة يفتقر إلى الجدية والذكاء والقدرة على استنباط الحلول، من دون أن ننسى الدور السلبي الذي يلعبه القطاع الخاص في بلداننا حيث أن ثقافة الفاعلين في القطاع الخاص قامت على مصلحة رجل الأعمال وحده، فباتت ثقافة هجينة أخذت من القطاع العام الراتب المتواضع ومن القطاع الخاص القدرة على التسريح. وبالتالي فإن القطاع الخاص عندنا هو نسخة سيئة من القطاع العام، ونسخة أكثر سوءا من القطاع الخاص القائم في حقيقته على المبادرة الخاصة ومبدأ تعظيم الكفاءة والتشجيعات والحوافز.

لقد أثبتت الأحداث أن البطالة سوس ينخر في السلم الاجتماعي في البلدان العربية وأن تبعاتها وانعكاساتها، باتت تؤسس لثقافة أبعد ما تكون عن المقولات المعلنة حول التنمية والتقدم والانصهار في نسيج العالم.

[email protected]