باسكال بونيفاس.. والفكر المستنير

TT

يعتبر باسكال بونيفاس من أهم المفكرين السياسيين في فرنسا حاليا. وكتبه عن المنطقة العربية والشؤون الفرنسية والعالمية لم تعد تحصى أو تعد. وهو رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس. كما أنه يشرف كل سنة على طباعة كتاب ضخم بعنوان «السنة الاستراتيجية» لعام 2007 مثلا، أو 2008.. إلخ. وفيه يحلل مع فريق عمله التطورات السياسية والاستراتيجية التي طرأت على مختلف المناطق والبلدان طيلة السنة المنصرمة. كما أنه يقدم معلومات ومعطيات دقيقة عن كل منطقة وكل بلد. وبالتالي فهو مرجع لكل الباحثين أو الطلاب الذين يريدون أن يستعلموا عن القوى العظمى والصغرى والمتوسطة في هذا العالم.

لكن أهمية باسكال بونيفاس تعود إلى شيء آخر في الواقع، أو قل إن شهرته كبرت منذ بضع سنوات لأنه كان من المثقفين الفرنسيين القلائل الذين تجرأوا على اتخاذ موقف متوازن من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. بل ونشر كتاباً أحدث ضجة واسعة في وقته تحت عنوان «هل من المسموح نقد إسرائيل في فرنسا؟». العنوان بحد ذاته يعتبر استفزازا وعدوانا على إسرائيل وأنصارها الذين يقفون إلى صفها بدون أي قيد أو شرط.

لكن لا ينبغي أن نتوهم أن الرجل يكره إسرائيل أو اليهود. على العكس تماما. كل ما في الأمر هو أن يكره الظلم والبغي من أي جهة جاء ولأي دين أو عرق أو طائفة انتسب. فإذا رأى أن حكومة إسرائيل تقوم بأعمال تعسفية في المناطق التي تحتلها، فإنه يسمح لنفسه بانتقادها. وإذا رأى أن العرب يبالغون في نزعتهم المعادية لليهود كيهود، فإنه يعلن استياءه. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. إنه يحب العدل والحق بكل بساطة ولا يسكت على الباطل والعدوان كما يفعل الكثير من المثقفين في الساحة الباريسية. فهؤلاء يدينون الباطل فقط إذا جاء من جهة العرب. لكن نادرا أن يدينوه أو يشيروا إليه مجرد إشارة إذا ما جاء من طرف الإسرائيليين. هنا يكمن الفرق بين الموقف المتوازن والموقف المنحاز بشكل مسبق لطرف ضد الطرف الآخر.

في الواقع أن باسكال بونيفاس هو وريث كبار فلاسفة التنوير في فرنسا من أمثال: فولتير، ديدرو، روسو، والبوسوعيين. ومعلوم أن فولتير خاطر بنفسه وانتصر للأقلية البروتستانتية المضطهدة ضد الأغلبية الكاثوليكية الظالمة، على الرغم من أنه هو كان كاثوليكيا أو من عائلة كاثوليكية. وهنا، على هذا المحك، تقاس عظمة المثقفين. فهل هم قادرون على مقاومة أهوائهم والوقوف ضد التيار الجارف في عصرهم أم لا؟. من المعلوم أن التيار الجارف في عصر فولتير كان الأصولية الكاثوليكية التي كانت تمثل أغلبية الشعب الفرنسي. والتيار الجارف حاليا هو المؤيد لإسرائيل ظالمة كانت أم مظلومة. ولأن باسكال بونيفاس تجرأ ووقف ضد هذا التيار، فإنهم عاقبوه وهددوه. وهذا ما يعترف به صراحة في كتابه، وفي المقابلات التي تلت صدور الكتاب. هل نعلم أن سبعة دور نشر باريسية رفضت طبع الكتاب قبل أن تقبل به دار روبير لافون؟. وهل نعلم بأن المعهد الاستراتيجي الذي يشرف عليه تعرض أيضا للضغوط بأشكال شتى؟، فتارة يتصلون ببعض أعضائه لكي يؤلّبونهم على رئيس المعهد، أي بونيفاس نفسه، وتارة يضغطون على الشركات والمؤسسات التي تدعم المعهد ماليا، والتي بدون دعمها يتوقف. وإذن فهناك أساليب عديدة للضغط عليك، منها ما هو سري ومنها ما هو علني.. وأحيانا تشعر وكأن الأرض تميد من تحت قدميك والفراغ أصبح يحيط بك من كل الجهات بعد أن انفضّ أصدقاؤك عنك بقدرة قادر وأصبحت وحيدا أو شبه وحيد في صحراء مقفرة. وهكذا يمارسون الرعب النفسي عليك من أجل زعزعتك.

وعلى الرغم من ذلك، فإن باسكال بونيفاس لا يقول بوجود لوبي يهودي في فرنسا، إنما لوبي إسرائيلي، بل ويصل به الغلوّ في حب إسرائيل ودعمها إلى حدّ العمى الكامل. وهذا اللوبي شُكل من يهود وغير يهود، وليس فقط من اليهود على عكس ما نتوهم نحن العرب. بل ان بعض كبار المثقفين اليهود هم من أنصار القضية الفلسطينية لأنهم يحبون الحق والعدل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: الفيلسوف الكبير ادغار موران، المؤرخ الشهير المضاد للاستعمار الفرنسي أيام الجزائر بيير فيدال ناكيه، المستشرق الكبير مكسيم رودنسون، المناضل روني برومان، الطبيب مارسيل فرانسيس خان، ودانييل بنسعيد، وعشرات غيرهم. وبالتالي فحذار من التعميم!. ونحن العرب ميالون إلى التعميم في كل شيء، وإدانة اليهود في المطلق، وهذا خطأ. فلنحارب إذن أطروحات القاعدة التي تلعب على وتر معاداة السامية مثلما يحارب هؤلاء مع باسكال بونيفاس الأطروحات العنصرية المضادة للعرب في فرنسا. واحدة بواحدة. نحن أيضا بحاجة لأن نكنس أمام بيتنا وليس فقط الآخرين!.

واللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا مشكل من شخصيات يهودية وغير يهودية، كما ذكرنا ولأسباب شتى. فمنهم مَن له علاقات خاصة بإسرائيل، ومنهم مَن يشعر بتأنيب الضمير التاريخي بسبب المحرقة النازية، ومنهم مَن هو عنصري يكره العرب جذريا.

وقد نبهني باسكال بونيفاس إلى فكرة جديدة ما كنت أعرفها: وهي أنه قد يوجد في تيار اليمين المتطرف جناح يكره اليهود ويحب الصهيونية في آن معا!، كيف، ولماذا؟. لأنه يعتبر أنه تخلص من اليهود بإرسالهم إلى فلسطين لمحاربة عدوه التاريخي أي العرب والمسلمين. وهكذا ضرب عصفورين بحجر واحد. ثم انه «فخار يكسر بعضه» كما يقول المثل الشعبي. كلهم شعوب سامية محتقرة من قِبل الشعب الأوروبي الأبيض الأشقر الجميل. فاليهود والعرب أبناء عم، كذلك العربية والعبرية..

وقد صرح زعيم اليمين المتطرف جان ماري لوبن مرة لجريدة «هاآرتس» الإسرائيلية، أنه يجد نفسه في معارك شارون ضد العرب الفلسطينيين ويتذكر معاركه هو ضد الجزائريين قبل نصف قرن أو يزيد.