ساركوزي.. وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي

TT

يؤكد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في كل مناسبة قائلا «لست منظرا». وقد فعل هذا في أمسية خلال برنامج تلفزيوني دام 90 دقيقة بمناسبة الذكرى الأولى لفوزه في الانتخابات. وبقوله انه ليس منظرا يحاول الزعيم الفرنسي تقديم نفسه كسياسي براغماتي منفتح على النقاش ومستعد للاعتراف بالأخطاء. وكان هذا ما فعله خلال ماراثونه التلفزيوني. وفي ما لا يقل عن ست مناسبات، وفي إشارة إلى جوانب مختلفة من سياساته، قال: أعترف بأنني ارتكبت خطأ! غير أنه كانت هناك قضية واحدة بدا فيها ساركوزي مثل منظر وهي قضية «طلب تركيا العضوية في الاتحاد الأوروبي». فقد عارض ساركوزي العضوية التركية لسنوات، وهو موقف أكده خلال حملته العام الماضي. وعلى أمل ان يكون ساركوزي منفتحا على النقاش دعونا نرى ما إذا كان بوسعنا إقناعه لتغيير رأيه. ذلك ان إغلاق الباب أمام تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يلحق الضرر بالطرفين. وتعتمد حجة ساركوزي الأساسية على الجغرافيا. فهو يصر على أن تركيا ليست «في أوروبا». غير أن الاتحاد الأوروبي ناد اقتصادي وسياسي، وليس ناديا جغرافيا. ومن الناحية الجغرافية تعتبر سويسرا في قلب أوروبا، ولكنها ليست في الاتحاد الأوروبي. وتعتبر النرويج وآيسلاند بلدين أوروبيين أيضا في إطار الجغرافيا. غير ان أيا منهما لا يرغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وألبانيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وصربيا ومونتينيغرو ومولدوفا وأوكرانيا كلها جغرافيا في أوروبا وترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنها لا تستطيع، لأن العضوية تتطلب ما هو أكثر من الجغرافيا. وبيلاروسيا في أوروبا ولكن الاتحاد الأوروبي غير مستعد لقبولها لأنها تفتقر إلى أدنى المؤهلات السياسية. وبقدر تعلق الأمر بالتوصيف الجغرافي التقليدي لأوروبا فإن خمسة في المائة من الأراضي التركية فقط، تعتبر أوروبية. ولكن أوروبا لا تعرف على الدوام بمثل هذا الإطار الضيق. فتركيا عضو مؤسس لمجلس أوروبا، وهو هيئة تضم دولا مثل جورجيا وآذربيجان وأرمينيا وكازاخستان التي ليست لديها رابطة جغرافية مع القارة.

هل يتعين أن تؤدي حقيقة أن جزءا من أراضي بلد يقع خارج الحدود الجغرافية التقليدية لأوروبا أوتوماتيكيا إلى إبعاده عن عضوية الاتحاد الأوروبي؟

ليس هناك مثل هذا الحكم في أي من المعاهدات التي خلقت الاتحاد الأوروبي منذ عام 1949. وإذا كان لمثل هذا الحكم أن يتأسس فإن روسيا، التي تقع معظم أراضيها جغرافيا في آسيا، لا يمكنها أن تفكر في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويمكن أيضا إبعاد الدنمارك لأن أراضيها الهائلة في غرينلاند بعيدة عن القارة. ولفرنسا بعض الأراضي في الخارج تقع في الأميركتين وأفريقيا وآسيا وأستراليا. وعندما كانت فرنسا، بالترافق مع ألمانيا الغربية وإيطاليا ودول البنيلوكس، تبني مستقبل الاتحاد الأوروبي، فإنها كانت ما تزال تعتبر الجزائر كما لو كانت واحدة من محافظاتها. وكان ذلك يعني أن ربعا فقط من الأراضي الفرنسية يقع، في الواقع، في أوروبا في ذلك الوقت.

وتتمتع تركيا بأواصر جغرافية قوية مع أوروبا. فلديها حدود برية وبحرية مع خمس دول أوروبية هي: روسيا وأوكرانيا ومولدوفا ورومانيا واليونان (الثلاث الأخيرة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي).

وتسيطر تركيا على الآصرة الحيوية بين موقعين نائيين أوروبيين أساسيين هما البحر السود وبحر إيجة، وتحتل موقعا استراتيجيا على البحر الأبيض المتوسط، قلب الحضارة الأوروبية. بل ان أواصر تركيا التاريخية أقوى مع أوروبا.

وكانت مجموعة من الدول الأوروبية الأولى، بينها الحثية والإغريقية، تقع في الأناضول. ولقرون عدة كانت الامبراطورية العثمانية، التي تقع في تركيا الحالية، قوة أوروبية رئيسية تلعب دورا بارزا في البلقان. وفي القرن التاسع عشر، وعندما كان الأوروبيون الغربيون يسمون الامبراطورية العثمانية «رجل أوروبا المريض» لم يتساءلوا أبدا عن موقعها في القارة.

من الناحية الإثنية أيضا تعتبر تركيا أوروبية. فغالبية السكان من ليديان وهيتيت وأصول يونانية وسلافية وأرمينية وقوقازية وتركية، بالطبع، من آسيا الوسطى. إذا كانت تركيا «آسيوية» كما يوحي ساركوزي، فإن ملامح سكانها ستكون أقرب إلى القازاق والأوزبك والكوريين، أكثر منها إلى ملامح سكان الجنوب الأوروبي.

ربما يشير ساركوزي إلى ان اللغة التركية ليست لغة أوروبية. هذا صحيح. فاللغة التركية تتبع إلى مجموعة اللغات الآسيوية، فيما تتبع جميع اللغات الأوروبية ـ باستثناء ثلاث ـ إلى مجموعة اللغات الهندوأوروبية. ولكن الاتحاد الأوروبي ليس ناديا لغويا، وإلا فإنه كان يجب أن يستثني دولا مثل فنلندا والمجر على اعتبار ان لغاتها لا تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندوأوروبية. فرنسا نفسها، إلى جانب إسبانيا، فيها لغة الباسك التي تعتبر «أجنبية» لأنها لا ترتبط بأي مجموعة لغوية أوروبية. على أية حال.. متحدثو اللغة التركية داخل الاتحاد الأوروبي حاليا أكثر من متحدثي اللغات البلغارية والكاتالونية والتشيكية والدنماركية والإستونية والبرتغالية والسويدية والسلوفينية. التركية لغة أساسية في الاتحاد الأوروبي مسبقا بفضل وجود حوالي 12 مليون مهاجر تركي. مع العلم أن سبعا من لغات الاتحاد الأوروبي الـ25 المعترف بها ـ الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبولندية والرومانية ـ تستخدم داخل حدوده الحالية بواسطة عدد أكبر من السكان.

ثمة عامل آخر أخذه ساركوزي في الاعتبار، من دون أن يجد الاهتمام الإعلامي اللازم، وهو أن تركيا دولة غالبية سكانها مسلمون. هذا العامل أيضا يحب ألا يكون سببا في عدم قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. فالإسلام يحتل مسبقا المرتبة الثانية من ناحية عدد الذين يدينون به في أوروبا. كما ان فرنسا نفسها فيها حوالي 6 ملايين مسلم، فضلا عن ان الإسلام يمثل أكبر أقلية دينية في 22 من مجموع دول الاتحاد الـ27. يضاف إلى ذلك أن الإسلام الآن الديانة الأكثر ازديادا من الناحية الديموغرافية، ويتوقع مفكرون أن يصبح الإسلام دين أغلبية في أوروبا خلال القرن الحالي. إلا ان الاتحاد الأوروبي ليس ناديا دينيا أيضا، وإلا لتم استثناء 2.5 مليون يهودي و20 مليون مسلم، إلى جانب ملايين ليس لهم دين. هل يعني ذلك أن البوسنة والهرسك وألبانيا، حيث يشكل المسلمون أغلبية، لن تحصلا على عضوية الاتحاد الأوروبي؟ علما أن الدولتين قد بدأتا مراحل أولية في التقديم للحصول على عضوية الاتحاد. إذا لم تكن هناك أسباب موضوعية لإبعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي، فهناك عدة أسباب لدعم ترشحيها للحصول على العضوية. فالاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لتركيا، كما أنه أكبر مستثمر خارجي في الاقتصاد التركي. يضاف إلى ذلك أن 80 في المائة من زوار تركيا من الاتحاد الأوروبي، كما ان الاتحاد الأوروبي يعتبر وجهة رئيسية للأتراك الذين يعملون في النشاط التجاري، فضلا عن التعليم وقضاء العطلات. إن سعي تركيا للتقرب من الاتحاد الأوروبي لم يقتصر فقط على تبني الحروف اللاتينية. فقد تبنت تركيا النظام الديمقراطي وبنت جمهورية علمانية، وتعمل على ترقية ثقافة التعدد. كما ان تركيا أدخلت إصلاحات في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والقضائية بغرض تحقيق شروط الاتحاد الأوروبي.

وتركيا اليوم أكثر قربا إلى معايير الاتحاد الأوروبي، من أي من الدول الأعضاء في الاتحاد حاليا. إذ ان تركيا، كما أشرت سابقا، عضو مؤسس للمجلس الأوروبي وعضو مؤسس أيضا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ويعتبر جيشها ثاني أكبر جيش في الحلف. يضاف إلى ما سبق أن تركيا قادت في السابق جهود الناتو لبسط الاستقرار في أفغانستان عقب انهيار نظام طالبان.

لذا نرى أن ساركوزي قد أخطأ في موقفه من تركيا. وكلما اعترف بذلك على وجه السرعة، كان ذلك أفضل للأطراف المعنية جميعا.