ألغاز المواقف الغربية والأمريكية

TT

أولاً: بينما كنت أشرع في كتابة هذا المقال، توقفت لأن التلفزيون كان يبث صوراً بشعة لأسرة فلسطينية كاملة قتلت ضحية لغارة إسرائيلية على غزة في استمرار لسلسلة من الجرائم التي ترتكبها حكومة يهود اولمرت دون أن يرتفع صوت واضح وصريح من الدول الغربية يدين مثل هذه التصرفات وغيرها من الجرائم المشابهة، مثل وقف تزويد قطاع غزة بالوقود الضروري لتسيير المستشفيات وعربات الإسعاف، أو لضمان إمكانيات الحياة لشعب تحت الاحتلال بالمخالفة لكل الاتفاقيات الدولية، بحجة أن صورايخ فلسطينيةـ يقال في نفس الوقت إنها بدائية ولم تقتل في النهاية عبر شهور طويلة غير ثلاثة عشر إسرائيليا في مقابل مئات الفلسطينيين رجالاً ونساء وأطفالاً قتلوا، إما في عمليات مبرمجة وإما نتيجة قصف بالطائرات أو بالمدافع. هذا بينما إذا جرح أو أصيب إسرائيلي بخدش فإن «هؤلاء الحريصين على حقوق الإنسان» يصدرون قراراً وتصريحات الإدانة ويهددون بالويل والثبور. ولست أجد إزاء هذه التصرفات أفضل من الاقتباس من مقال في مجلة the notin لهنزي سيجمان، وهو خبير يهودي أمريكي في شؤون الشرق الأوسط، ومتابع مدقق لأحداث النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني الذي كان إلى وقت قريب يرأس برنامج الشرق الأوسط لمجلس العلاقات الخارجية.

يقول سيجمان بخبرته وشجاعته وروح الإنصاف التي يتحلى بها:

* تفيد الأنباء أن توني بلير مبعوث الرباعية الدولية، وانجيلا ميركل رئيسة وزراء ألمانيا يعتزمان تنظيم مؤتمر جديد للسلام. ومن الصعب أن يصدق أحد أنه بعد سلسلة طويلة من مبادرات السلام الفاشلة منذ مدريد، أن بعض الدبلوماسيين يحاولون إعادة تدوير هذا الفشل دون أن تكون لديهم أية فكرة حول السبب الحقيقي في أن النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أصبح أسوأ مما كان قبل أن تبدأ عمليات السلام.

* إن المأساة تكمن في أن المجتمع الدولي العاجز عن حل أحد أكثر نزاعات التاريخ دموية ليس لديه شجاعة إعلان الحقيقة التي يعرفها والتعامل معها. وتكمن المشكلة في أن كل الآثام تلحق بالفلسطينيين وآثامهم بالفعل كثيرة من قيادة عاجزة وفاسدة، والفشل في بناء مؤسسات واستخدام العنف القاتل من جانب منظمات الرفض، لا تنفي أن السبب في عدم احتمال قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة، هو أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1967 لم تكن لديها أبداً النية للسماح بإقامة تلك الدولة، إذا أن الاستمرار في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتمزيقها يجعل أي طفل يدرك أن إقامة دولة فلسطينية مستحيل. والغريب أن المجتمع الدولي يسمح باستمرار سيادة قانون الغاب وكأنه يصدق ادعاء إسرائيل بأنها الضحية، وأن من تحتل أراضيهم هم المعتدون. وطالما أن المجتمع الدولي يتخذ هذا الموقف، فإن أية مبادرة للسلام لن تنجح.

* وليس هناك خداع من الدول الغربية التي يؤرقها شعور الذنب بسبب «الهولوكوست»، أكبر من تصورها إنها بمواقفها هذه تعكس صداقة تجاه الشعب الإسرائيلي، فإن التخلي عن الفلسطينيين ليس بالقطع تكفيرا عن التخلي عن اليهود الأوروبيين قبل سبعين عاماً، وليس موقفاً يخدم أمن إسرائيل بل إن المطلوب هو اتخاذ موقف سياسي وأخلاقي شجاع، فمع إدانة العنف الفلسطيني خاصة ضد المدنيين، والمطالبة بتوقفه، من الخطأ الادعاء بأن احتلال إسرائيل ليس عملية عنف مستمر ضد 3 ملايين فلسطيني.

هنا انتهى الاقتباس من مقال سيجمان، وأود أن أضيف بعض النقاط التي قد تستحق التسجيل ولعل أهمها رفض إسرائيل الموافقة على ما توصلت إليه مصر مع حماس حول التهدئة المتبادلة بين الطرفين. وفي هذا الصدد فمن المهم تسجيل أن حماس تنازلت عما كانت تطالب به من أن تتم التهدئة في غزة والضفة في نفس الوقت، وهو مطلب منطقي، إذ أن إسرائيل لم تتوقف عن عملياتها العدوانية في الضفة رغم استمرار المفاوضات العقيمة بين أبو مازن وأولمرت، وبالتالي فليس من المعقول قبول توقف العدوان على القطاع مع استمراره على الضفة لأن في ذلك تأكيداً لمبدأ الانفصال بين الجزءين من الأراضي الفلسطينية، ويجعل الأمر يبدو وكأن حكومة غزة لا يهمها ما يحدث في الضفة. وفي ذلك مزيد من الوقيعة بين فتح وحماس في وقت ما نحتاج إليه وتسعى إليه مصر وأطراف أخرى هو رأب الصدع وتوحيد الشرعيتين النابعتين من انتخابات حرة ونزيهة مهما كان الرأي فيما تمخضت عنه. أما النقطة الثانية، فهي فشل مباحثات أبو مازن مع الرئيس بوش رغم بعض التصريحات المتناقضة والمتذبذبة من مصادر فلسطينية حول الحكم عليها. ولعل الكشفَ عن الواقع هو ما صرح به الرئيس بوش من أنه يثق بإمكان التوصل قبل نهاية ولايته إلى «تعريف الدولة الفلسطينية» بينما كان وعده الأصلي هو إقامة دولة فلسطينية قبل مغادرته البيت الأبيض. ولست أرى تطابقاً بين الأمرين وقد أكون مخطئاً. وفي هذه الحالة، فإني مستعد للاقتناع إذا سمعت حججاً وجيهة أو معقولة، خاصة أن مصادر كثيرة نقلت عن الرئيس أبو مازن قوله «إن هوة عميقة ما زالت تفصل بين المواقف، وأنه يبدو أن الوعد سيطوى واضعاً الفلسطينيين في موقف صعب؟».

ثانياً: إذا انتقلنا إلى موضوع التسوية السورية ـ الإسرائيلية، فإننا نواجه موقفاً غاية في الغرابة يتلخص في الآتي:

* أعلن الرئيس بشار الأسد أن يهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل نقل عن طريق تركيا رسالة إلى دمشق عن استعداده لإعادة الجولان في مقابل السلام.

* أكد رئيس وزراء تركيا أثناء زيارة تالية لدمشق الخطوط العريضة لمثل هذا العرض، ثم أعلن عن إجراء مباحثات في هذا الشأن بين دمشق وتل أبيب في أنقرة على مستويات متصاعدة من كبار الموظفين وصولاً إلى مستويات أعلى.

* والمعروف أن الولايات المتحدة كانت: كما أفادت عبر الأشهر الماضية مصادر متعددة تعترض على استعداد إسرائيل لاستئناف المفاوضات مع سوريا. وبعد تسرب الأنباء حول الوساطة التركية نقلت الصحف عن مستشار للإدارة الأمريكية قوله إن البيت الأبيض غير مهتم على الإطلاق بإعادة إحياء المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية حول الجولان، وأن الأولوية هي للملف الفلسطيني. وأضاف المصدر أن واشنطن غير مقتنعة بقدرة أو نية الرئيس الأسد تقديم تنازلات لإسرائيل في هذا المقام. والغريب في هذه التصريحات أن واشنطن تبدو ملكية أكثر من الملك، كما أنها تشير إلى أن التنازلات مطلوبة من سوريا رغم أن إسرائيل هي التي تحتل الأرض ومن المنطقي مطالبتها بإعادتها.

* ولم تكتف واشنطن بهذا الموقف، بل إنها اختارت هذا التوقيت لكي تسرب أخباراً وصوراً حول ما تزعم أنه مفاعل نووي كانت سوريا تبنيه بمساعدة كوريا الشمالية ودمرته إسرائيل في غارة جوية في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. ويثير الإعلان أسئلة كثيرة وشكوكاً تستعيد إلى الذاكرة الظهور المؤلم لوزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول أمام مجلس الأمن قبل غزو العراق حيث ورطته الإدارة في عملية خداع غير أخلاقية وغير مسبوقة حول الأسلحة النووية والبيولوجية المزعومة.