الديموغرافيا هي الملك

TT

منذ نحو خمس وخمسين عاما، كان 80 في المائة من الشعب الأميركي ـ كبارا وصغارا ـ يلتفون حول شاشة التلفزيون لمشاهدة ميلتون بيرل مساء كل ثلاثاء. كما عمل عشرات الملايين ـ أغنياء وفقراء ـ معا في إلكس لودجز وروتاري كلبز. كما كان الملايين ـ في الريف والمدن ـ يقرأون المجلات العامة مثل لوك آند لايف. وفي هذه الأيام، كان صاحب البنك المحلي يعيش في المدينة نفسها التي يعيش فيها عامل البقالة، وربما يلعب أولادهما في فريق كرة السلة نفسه. وكان 7 في المائة فقط من الشباب الأميركي يحصلون على التعليم الجامعي. لكن هذا كله قد تغير. فهناك اليوم عدد أكبر من المتعلمين. وغالبا ما يعيش المتعلمون في الجامعات في مدن غير تلك التي يعيش فيها غير الحاصلين على شهادات جامعية. وهناك معدلات طلاق مختلفة تماما بين الطبقتين، كما أن هناك اختلافا في أساليب تنشئة الأطفال بينهما. وغير الحاصلين على شهادات جامعية لا يحصلون فقط على راتب أقل، بل انهم يدخّنون بصورة أكبر ويميلون إلى السّمنة وتكون معدلات أعمارهم أقل. وقد أثر هذا الانقسام للمجتمع الأميركي على السياسة. فقد أصبحنا نرى الانقسام الفكري بين المعسكرين الأحمر والأزرق في أميركا. وقد كشفت انتخابات هذا العام عن فجوة ثقافية كبيرة في الحزب الديمقراطي، فعرفنا ما سماه ستيوارت روتنبرغ بالحزبين الديمقراطيين.

وفي ولاية بعد أخرى (باستثناء ويسكنسون) كان باراك أوباما يفوز بغالبية المناطق التي تتمتع بكثافة عالية ونسبة تعليم عالية. وكانت هيلاري كلينتون تفوز بالمناطق الأقل كثافة والأقل تعليما. فعلى سبيل المثال، فاز أوباما بنحو 70 في المائة من معظم المقاطعات التي ترتفع فيها نسبة التعليم في الولايات الرئيسية. وفازت كلينتون بنحو 90 في المائة من المقاطعات الأقل تعليما. وقد قام أوباما بعمل كل شيء للفوز بأصوات الطبقة العاملة في بنسلفانيا. لكنه واجه فشلا في ذلك. وفي هذه الانتخابات فإن الإقناع لا يبدو مهما. ويبدو أن الهوية الاجتماعية هي كل شيء. فالديموغرافية هي الملك.

وخلال سنوات عديدة، كان هناك عدد كبير من النظريات التي ظهرت لوصف الانقسام بين الطبقة المتعلمة والطبقة الأقل تعليما. فالمحافظون ينجذبون إلى من يحدثهم عن الحرب، فيبدو وكأن هناك انقساما بين عامة الجماهير والطبقة المثقفة الراقية. ويعتقد بعض الليبراليين أن عدم المساواة في الدخل هو أساس كل انقسام. ويبدو أننا نأمل في حدوث انتفاضة اقتصادية. والليبراليون الآخرون يقسمون الولايات المتحدة من الناحية الأخلاقية، فهناك سكان المدن المثقفون والمتعصبون الذين لا يمكن أن يصوتوا لصالح مرشح أسود. وقد بدأت الجماعات الديموغرافية في العمل وكأنها قبائل أو ثقافات. ولا يمكننا جميعا أن نعرف السبب وراء جاذبية أوباما وهو خريج جامعة هارفارد ومتخصص في القانون، للطبقة المتعلمة، وكذلك الأمر مع كلينتون التي تجذب إليها الطبقة الأقل تعليما. وقد يمكن تعليل ذلك الأمر بأن أوباما كثيرا ما يتحدث عن «الحملات العلمانية» التي تلقى كثيرا من الترحاب بين أنصاره، أما كلينتون فإنها تتحدث عن القتال والكفاح وهو ما يلقي رواجا بين طبقة مؤيديها. لكن هذه النظريات يبدو أنها لا تسبر غور الحقيقة الكاملة. فالخرائط العقلية للشعوب وسط التعددية الثقافية التي نعيش فيها تكون غاية في التعقيد ولا يسهل فهمها حتى من قبل راسمي هذه الخرائط. فالأفراد يستطيعون فهم العديد من الإشارات من خلال لغة الجسد واختيار الكلمات وتعبيرات الوجه والتوجه السياسي وتفاصيل السير الذاتية للأشخاص. ومحاولات إعادة تلميع صورة أحد المتنافسين لتبدو براقة في أعين الناخبين، إنما هي محاولات ساذجة لا تأتي إلا بنتائج عكسية. وخلاصة القول إنه حتى لو استبعدنا الاختلافات الفكرية بين الحزبين، فإننا ما نزال نواجه اختلافات اجتماعية بينهما. والليبراليون الذين يبجّلون أوباما قد قضوا حياتهم في سبيل تحقيق المساواة ومناهضة التمييز. لكن ما قاموا به هو أنهم حطموا الهيكلية الاجتماعية للبروتستانت البيض من الأنغلوساكسون، ليؤسسوا هيكلية تعليمية جديدة من صنيعهم.

* خدمة «نيويورك تايمز»