لماذا الحوار الديني؟

TT

أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مؤخرا  مبادرة مهمة لحوار الديانات تستحق وقفة اهتمام وتأمل في السياق الراهن لعلاقة المسلمين بغيرهم، التي لا يمكن إنكار أنها تعرف أقصى درجات التردي منذ القرن العشرين.

صحيح أن حوار الديانات ليس بالموضوع الجديد، بل هو أحد الأجندة الثابتة في الندوات والملتقيات الفكرية الكثيرة التي لا تنفك تعقد في البلدان الإسلامية وغيرها من دول العالم، بيد أن تبني الفكرة من أحد قادة العالم الإسلامي البارزين والذي هو في الآن نفسه «خادم الحرمين الشريفين» له دلالة خاصة لا تخفى على Bحد في الوضع الحالي.

فموضوع الحوار الديني خرج في الواقع من الاعتبارات الأكاديمية والنظرية الى مستوى الرهانات الhستراتيجية الكبرى.

وكان عالم الاجتماع الفرنسي المرموق الآن تورين قد بين في كتاب مرجعي أساسي صدر عام 2005 أن مفتاح المسارات الإنسانية الجديدة قد انتقل من فكرة المجتمع التي هيمنت طيلة قرنين على العلوم الإنسانية الى براديغم الثقافة الذي هو المدخل الى فهم كل أزمات وإشكالات الوضع الدولي الراهن. وبطبيعة الأمر، يشكل الدين المقوم المحوري في الثقافات، من حيث هو الرأسمال الرمزي الأعمق للمنظومات العقدية والقيمية.

ومهمــا كان القول صحيحــا حول تراجع الدين في المجتمعــات الغربية العلمانية، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها انه يمثل حاليا محورا رئيسيا من محاور العلاقات الدولية.

ويمكن ان نستجلي حضور الدين في الرهان الاستراتيجي العالمي من خلال ثلاثة مستويات نقف عندها باقتضاب:

أما المستوى الأول فيتعلق بظاهرة التطرف الديني وما يرتبط بها من أحداث إرهاب وفتنة، التي لا تتردد بعض  الدوائر الاستراتيجية  الغربية (الأمريكية بصفة خاصة ) باعتبارها المصدر الأول لتهديد السلم العالمي بالنظر الى استنادها الى أسلحة الدمار الشامل.

ولئن كان من الرائج اختزال هذه الظاهرة في الأصولية الإسلامية والتيارات الإرهابية المتفرعة عنها، إلا أن الواقع أنها ظاهرة تتجاوز الحيز الإسلامي، كما تبين العديد من الأحداث التي هزت العالم مؤخرا، من أوضحها  فظائع الأصوليات الأرثوذكسية الصربية في البلقان، والهندوسية في الهند واليهوديـة فــي فلسطين.

ونكتفي بالقول ان ظاهرة التطرف الديـني أصبحت اليــوم تلتبس بالنزعات القومية الانكفائية، بما يتجاوز البعد الديني ذاته، مما لا يتسع المقام لتفصيل القول فيه.

أما المستوى الثاني فيتعلق بالمسألة الدينية السياسية التي تطرح في أيامنا إشكالات عصية غير مسبوقة في المجتمعات العلمانية الغربية، مما نلمس الكثير من مؤشراته. فالمعروف ان المنظور العلماني قام في المجتمعات الغربية لحسم معضلة الصراع الديني وتعويض الأبعاد الكونية الشمولية في الدين بالولاء للأمة من حيث هي مستودع القيم الجماعية. وما نلمسه اليوم بوضوح هو أن المثال العلماني الذي طالما تغذى من ديناميكية الفصل بين الدين والدولة في طموحها التحرري التنويري قد تقلص زخمه من جراء خفوت هذه الديناميكية باعتبار انهيار المؤسسة الدينية التي لم تعد تشكل أي خطر على الكيان السياسي وباعتبار أيضا تراخي وتراجع المثل القومية التي أريد لها أن تعوض المطلقات الدينية. وهكذا نفهم خلفية دعوة الرئيس الفرنسي ساركوزي الى مراجعة تجربة العلمانية الفرنسية ببلورة لائكية متصالحة مع الدين تستلهم طاقته الدافعة وروحه الإدماجية لدعم روح المواطنة الواهنة، كما نفهم اللجوء الى القاموس الديني في الخطاب السياسي الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 لشد اللحمة الوطنية وتعبئة المواطنين حول الحروب «المقدسة» ضد الشر الإرهابي.

أما المستوى الثالث فيتعلق بخصوصية العلاقة بين  أهم ديانتين كونيتين (أي الإسلام والمسيحية) التي تعرضت في الآونة الأخيرة لبعض الزوابع منذ اعتلاء البابا بندكت السادس عشر لمقام البابوية. ولسنا بحاجة الى التذكير بخطاب في جامعة ريغسنبورغ وتعميده للصحافي المصري المتطرف في هجومه على الإسلام، تنضاف الى هذه المؤشرات الحملة العدائية ضد الإسلام ورموزه في العديد من البلدان الأوروبية ووضع الجاليات المسلمة في الغرب التي تنشط فيها المجموعات المتشددة.

كل هذه العوامل تبرر إطلاق فكرة حوار ديني، يتطلب، لكي يكون ناجعا، إخراجه من الحوارات الميتافيزيقية والكلامية الى إشكالات ومقتضيات التعايش والتعاون.