طفل (الخربشة)

TT

بينما كنت معه في أحد المطاعم ـ على الماشي ـ نتناول شطائر (سندويشات)، أكلت أنا سندويشي سريعاً (بلقمة واحدة) كأي تمساح، فيما كان زميلي يتدلع ويتقصوع ويأكل من طبقه مثلما يأكل العصفور، وإذا بالغرسونة الأفريقية الحمقاء تأتي على عجل، وتأخذ طبقي وطبقه دفعة واحدة ثم تنظف الطاولة، ونحن ننظر إليها مشدوهين، وصاح فيها زميلي دون أن ترد عليه، ورمت كل ما كان في صحنينا في (سبت الزبالة)، فقام زميلي منفعلاً، وتوّجه إليها محتجاً، والزبد يرغي بين شدقيه قائلاً: كيف تأخذين سندويشي، وأنا لم أقضم منه إلاّ قضمتين يا هبلة؟!

اعتذرت منه بجلافة قائلة: سوف أصحح غلطتي أرجوك ارجع إلى مكانك ولا تقلل أدبك.. مفهوم؟!

رجع وهو ما زال متوتراً، وما هي إلاّ خمس دقائق وإذا بالغرسونة تأتي له بسندويش آخر، ولكنها قبل أن تضعه على الطاولة، وإذا بها تقضم منه (قضمتين)، قائلة له وهي تمضغ: إليك سندويشك أرجعته لك مثلما كان، ثم استدارت وأعطتنا قفاها، وما زلت أتذكر منظر ردفيها، وكل ردف مثلما قال الشاعر: (يشكو من خويه).

***

حدثني بعين دامعة وهو يقول: إن الأحزان التي نتخيلها أعمق وأكثر أسىً من الوقت الذي تتركه لنا الحياة الحقيقية من اجلها.

قلت له: إنني لا افهم فلسفتك هذه، ولكنني أعيش الحياة كما هي، وبدلاً من أن تركبني هي أنا الذي اركبها، وإذا لم يعجبها ركوبي أضربها (بالسوط) وأنا اضحك. فقال لي: كم أنت رجل (سادي)!

قلت له: إنني أعجبت يوماً بـ(انتوني كوين) عندما مثل (زوربا)، وقد اندهش هو حينما رأى الأحجار، وهي تتدحرج في الهاوية، وصرخ قائلاً: يا إلهي حتى الأحجار لها حياة، إنها تتحرك (!!).. هكذا أنا يا صاحبي، أتقمّص الطبيعة، وهي أيضاً تتقمّصني، لا انفصال ولا انفصام بيننا (البتة). إنني إنسان صعب المراس ومتهوّر ومقتحم وغير سوي، ولولا قليل من الضمير في أعماقي فأقسم لك بالله لتحولت في هذه الساعة إلى إرهابي أين منيّ (القاعدة) وأين هي منيّ!!

***

قال لي أحدهم: إن المرأة عندما تتحدث عن ماضيها فهي تريد التوبة منه. أما الرجل فإنه إذا تحدث عن ماضيه فإنه يريد التبجّح به.

قلت له: إنني شخصياً لا أريد أن أتحدث عن المرأة لأنها لا تعنيني لا من قريب ولا من بعيد، رغم أنني أكن لها بعضاً من الاحترام المتواضع.

أما عن أنصاف الرجال المتبجحين الذين ذكرتهم، فإنني منهم براء، لأنني لا يمكن بل ولا أتذكر الماضي بكل خيره وشره، إنني يا سيدي أعيش فقط بالحاضر وأملأه صخباً وطرباً وعنفواناً ومغامرة، أريد أن أقلب السماء على الأرض، ولكنني للأسف لا أستطيع، ومع ذلك كله ما زالت أحاول، كأي طفل يتعلم (الخربشة) لأول مرّة في حياته.

[email protected]