المستقبل لمن؟ لـ «الثابتين» على الحق.. أم لـ «المرتابين» فيه؟

TT

«عدتُ إلى الفطرة التي يولد عليها كل إنسان.. عدت إلى بيتي الحقيقي الذي ولدت فيه.. هيا اسمعوني فقد أسلمتُ».. هذه الكلمات الواضحة العميقة الصادقة صدع بها وصدح ـ منذ قريب ـ الكاتب والمفكر الألماني الشهير: هنريك برودر، وهو كاتب اشتهر على نطاق واسع بهجومه الشديد والدائم على الإسلام.. ومما جعل لحملاته هذه على الإسلام شهرة واسعة في ألمانيا وأوروبا: مكانته الفكرية والثقافية والإعلامية بين الأوساط الألمانية والأوروبية، فقد بلغت مؤلفاته 18 مجلدا ترجمت ـ قبل إسلامه ـ إلى الانجليزية، وهي مؤلفات نشرها بالألمانية على مدى ثلاثين عاما.. ومما ساعد ـ كذلك ـ على ذيوع صيته: أنه (يهودي) من والدين يهوديين نجيا من (الهلوكست) البولندي.

وإسلام هذا النوع من الناس يوكد حقيقة عقلانية وأخلاقية للنخب الفكرية والثقافية والعلمية والاعلامية.. ولعامة الرأي العام المستنير كذلك.. هذه الحقيقة هي: (الاقتناع الحر) بالإسلام، أي اقتناع العقل والضمير والفكر والوجدان، فليس يخطر على بال ذي عقل وضمير: ان هذا الرجل المثقف المفكر (هنريك برودر) وأمثاله، يدخلون في الإسلام تحت الضغط والإكراه.. أولا: لأنهم (أحرار) العقل والفكر، وبهذه الحرية نفسها ظل برودر يجرح الإسلام لمدة ثلاثين سنة، وبأقسى العبارات والأحكام.. ثانيا: ان احتمالات الإكراه منتفية بإطلاق، فالمسلمون في حالة ضعف لا يستطيعون إكراه أحد على الدين (وقبل ذلك ان الإكراه على الإسلام باطل 100% بنص الآية 256 من سورة البقرة).. «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».. يضم إلى ذلك: ان هذا النوع من المفكرين يحيا في (بلاد حرة).. وفي سياق محور (الاقتناع الحر) بالإسلام، ينبغي رصد ومضة من ومضات اقتناع برودر بهذا الدين. فقد جهر بأن من مداخل وحجج إسلامه:

أ ـ اكتشافه ان الإسلام هو الدين الذي ولد عليه، بمعنى انه ولد مفطوراً على الإسلام.. وهذا حق: «فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها». ولقد فسر النبي هذه الآية بقوله: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ـ في رواية على هذه الملة ـ، أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».. ووظيفة العقل ـ ها هنا ـ هي تحرره الرائق التام من جميع الغواشي ـ البيئية والثقافية ـ التي تحول بينه وبين منهجه الملائم له وهو الدين الحق.

ب ـ مما يلحق بومضة الاقتناع الحر: (التعرّف من جديد) ـ بالبصيرة العقلانية ايضاً ـ على شيء كأنما يعرفه من قبل: كأنه نشأ في بيت معروف المكان والأركان عنده، ثم افتقده بسبب ضباب أو ظلام حاجب للرؤية، ثم انجلت الظلمة فتبيّنه وعاد إليه!!.. وهذا معنى قول هنريك برودر: «أنا سعيد بالعودة إلى بيتي الحقيقي الذي ولدت فيه»!!.. والبيت الأصيل الكبير الجميل هو (الإسلام) الذي بناه ـ بإذن الله ـ ودعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين، «قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين».. وقد صوّر النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هذا البيت الواحد الحاضن للمؤمنين كافة في جميع العصور في هذه الصورة الجميلة الأليفة الأنيسة فقال: «مثلي ومثلُ الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة. فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء».

إن المحور الآنف: من صميم موضوعنا هذا.. أجل.. وهو ـ في الوقت نفسه ـ (مفتح) للمحاور التالية وهي:

1 ـ ان إسلام المفكر الألماني هنريك برودر ليس فلتة يتيمة أو مفردة، بل هو جزء من ظاهرة أوسع وأشمل: ظاهرة الإقبال المتوهج المحب على الإسلام في الدانمارك وهولندا والمانيا (وهي دول اشتدت فيها الحملة على الإسلام في الظروف الأخيرة)، وفي سائر أوروبا، وفي أمريكا، وآسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاتينية.. واستراليا. فالمعلومات الموثقة تقول: إن الإقبال الحر على الإسلام يتزايد بمعدلات عالية وسريعة.. ومتى؟.. في ذروة الحملات الضارية عليه.. وفي ظل واقع عام للمسلمين: ينفر ولا يجذب!.

2 ـ ضع هذه الصورة في ذهنك ثم قارنها بما يضادها من مواقف أناس ينتسبون إلى الإسلام «!!!».

في العالم العربي حزب يمكن أن يسمى (حزب اللاإسلامية أو معاداة الإسلام).. ولقد احترفت خلايا هذا الحزب، واحترف أعضاؤه: النيل من كل قيمة إسلامية، والطعن البواح في كل ثابت أو مبدأ إسلامي، والانتصار ـ بحماسة مدهشة ـ لكل نزوع يعادي الإسلام: صادر عن مبغضيه المتمنين أن يخلو وجه الأرض من كل شعيرة إسلامية، ومن كل صوت يجهر بـ(الله أكبر) في مساجد الله جل ثناؤه.

ومن خصائص هذا الحزب: أ ـ الحرص البالغ على الترويج للإلحاد من جديد بحسبانه سلاحا حاسما، يهزم الإيمان ويقوض أركانه.

ب ـ نقض الإسلام وفق متوالية (العد التنازلي): نقض المعتقد، فنقض العبادة، فنقض التشريع، فنقض القيم والأخلاق، فنقض الثقافة إلخ.

جـ ـ فرض (دكتاتورية المنكر) أو الفساد.. ونحسب ان هذه النقط تتطلب شيئاً من البسط والبرهنة.

أولاً: يتعين التوكيد ـ في المبتدأ ـ على ان هذا المنزع إنما هو (تخلف عقلي) أو عمى فكري يحرم أصحابه من رؤية الحقائق والوقائع كما هي، أي بطريقة موضوعية.. والدليل على ذلك يتبدى في الفقرات الآتية:

ثانياً: مما يدل على (التخلف العقلي) ـ في هذه الصورة أو تلك ـ: أن الإلحاد لم يعد سلاحا يمكن ان يهزم الإيمان. فقد انكسرت موجة الإلحاد بصعود مدّ الحقائق العلمية في مجالات الطب والفيزياء، والهندسة الوراثية ـ على سبيل المثال ـ، وليس يتسع المجال إلا للتمثيل الموجز ـ فحسب ـ.. من أقوى أوهام الالحاد ـ ولا نقول براهينه ـ: زعمه بـ(قِدَم العالم)، أي ان العالم قديم بلا نهاية، ولا خالق له من ثم!!.. هذا الوهم أسقطه التقدم العلمي في الكونيات إسقاطا لا قيام له بعده، إذ جزم العلم بأن للنجوم والكواكب والمجرات (أعمارا) معينة، بمعنى كانت بعد أن لم تكن، وهذا يثبت حدوثها، وهذا الحدوث يثبت ان لها صانعا مدبرا سبقها في الوجود بالضرورة: تباركت أسماؤه.

ثانياً: ومما يدل على (التخلف الفكري) ـ كذلك ـ: المجازفة الغبية بنقض الإسلام، وطي راياته.. كيف يتأتى لهم هذا وهم يرون المفكر الألماني هنريك برودر يعالن بإسلامه ولا يخافت به: سعيدا فرحا متهللا (وهناك المئات يدخلون في الإسلام كل يوم) في عالمنا هذا.. ألا يرون هذه الوقائع؟.. إن من يغمض عينيه دون النور يضير عينيه ولا يضير النور!

ثالثاً: ان من يزعم انه من دعاة الحرية والديمقراطية لا يفرض (دكتاتورية المنكر) أو الفساد على الآخرين.. في الأسبوع الماضي طرحت قضية رجل أعمال سعودي يقيم فندقا (5 نجوم) في دولة عربية أخرى. ولقد قرر هذا الرجل ان يمتنع فندقه عن تقديم الخمور للنزلاء.. فهل في هذا عدوان على أحد؟.. لا.. قطعا.. بيد ان حريته في محاولته التزامه بشريعة ربه، تعرضت لما يمكن تسميته بـ(دكتاتورية المنكر) حيث شنت عليه حملة تتهمه بالتخلف والتزمت، بل هُدد بتخفيض درجة فندقه من 5 إلى 4 نجوم!.. أغرب من ذلك صاح صائح في إحدى الفضائيات: (أتريدون سعودة العالم)؟!..

والرد العقلي البدهي على هذا الصياح هو: ان الله هو الذي حرم الخمر.. والله ـ تقدس وتنزه في علاه ـ ليس سعودياً!!.. وفي هذا السياق ـ يبدو ـ في أحيان كثيرة ـ ان غير المسلمين أكثر أدبا واحتراما لقيم الإسلام من بعض المنتسبين إلى الإسلام.. لقد علمتُ أن أحد كبار المسؤولين السعوديين حين ينزل في الخارج في فندق ما: تُخلي إدارة الفندق الأجنحة والغرف التي سينزل فيها من الخمور وسائر المحرمات بناء على رغبته، وهذا السلوك إذ يدل على استمساك هذا المسؤول بشرع الله، فإنه يدل من جانب آخر على نبل غير المسلمين في احترام المسلمين وقيمهم دون ان يتعذروا بأن هذا التصرف سينزل كارثة اقتصادية ببلادهم!.. حقا: ان النبل والسماحة والأمانة أخلاق توجد في غير المسلمين أيضا، وربما بدرجات أعلى وأوثق: في عصور انحطاط المسلمين.. وهذه الأخلاق الإنسانية الرفيعة العامة هي التي جاء نبي الإسلام ليتممها.

نخلص من ذلك كله الى ان (الثابتين على الحق) مبشرون بمستقبل واعد وحقيقي: بمنطق العلم، وحقيقة الإقبال على الإسلام، وان (المرتابين) المشموتين بنزعة (اللا إسلامية)، لا مستقبل لهم.. وعلى الرغم من مواقفهم الغريبة، فإننا نحب لهم الخير ونقول لهم: اعقلوا. لا يسبقنكم آخرون إلى سعادة هي بين أيديكم، وإلا فإن الله سيرفع بالإسلام أقواما آخرين وفق وعده الذي لا يتخلف: «وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم».