«عقدة الخواجة» أم غياب مفهوم المواطنة؟

TT

سمعت في مطلع السبعينات عن طبيب امريكي الجنسية، نابغة في جراحة الاعصاب في امارة خليجية «انكشف امره»، اثناء سهرة مع مدير المستشفى وزملاء متعددي الجنسيات، عندما ضحك على نكتة باللغة العربية لم يدركها الاوربيون، ليتضح انه هاجر لأمريكا كصبي مع ابويه اللاجئين الفلسطينيين المسيحيين لامريكا ومنحا جنسيتها عام 1949.

فوجئ الطبيب بتفسير ادارة المستشفى بتخفيض 30% من مرتبه بتعديل وضعه الاداري «كعربي» وليس «غربيا» في السلم الوظيفي.

الموقف الكافكائي ـ كروايات الاديب التشيكي الجنسية، الالماني اللغة، فرانز كافكا (1883- 1924) ـ الذي وقع فيه طبيب لا يربطه بالعرب سوى جينات وراثية، لم يستوعبه عقل امريكي الثقافة والمفاهيم والتعليم، شب في بيئة تضمن المساوة الكاملة في الحقوق والواجبات والمعاملة للافراد حسب دستور يحدد ملامح «المواطنة» بشكل ليس فيه التباس. فاستقل الطبيب اول طائرة عائدا لوطنه القانوني كاليفورنيا مقسما ألا يضع قدمه مرة اخرى في المنطقة الممتدة بين جبال اطلس ومضيق هرمز.

تذكرت الرواية بعد اطلاعي على تفاصيل الاعداد لندوة شاركت فيها قبل خمسة اسابيع في الكويت عن دور الاعلام في ارساء التفاهم بين العرب والغرب. كلف المشرفون صحفيا شابا بريطانيا تفرغ للاعداد للندوة، بالبحث عن اخصائيين من الغرب واقناعهم بالمشاركة. تجربة مشاركة بريطانيين وعرب للاعداد لندوة لارساء التفاهم، بينت فجوة هائلة في تحديد الاهداف ومفهوم الانتماء والمواطنة لدى من يفترض انهم طليعة تقود الجانب العربي.

تناقض اسلوب العمل الطريقي المنظم methodical الغربي مع الطريقة العشوائية في الاعتماد على النوايا الطيبة للاصدقاء بمفهوم «ولو... تكرم عينك» في نهاية مكالمة تليفونية.

تناقض حصول الشاب البريطاني على تسجيل من ارشيف البي بي سي بطريقة قانونية مقابل فاتورة طلبتها البي بي سي، مع حصول رئيسه المباشر على نسخة مجانية «بالفهلوة» المصرية و«الشطارة» اللبنانية، رغم انها مخالفة قانونية حسب اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية.

اعترض الرئيس «الفهلوي» على «اضاعة الوقت» بتدقيق الشاب في البحث في خلفيات المرشحين من الغرب لاختيار باقة من اعلاميين وساسة ومتخصصين في شؤون الشرق الاوسط؛ وفي تبادله رسائل الكترونية ومناقشات مستفيضة للتعرف على طريقة تفكير المرشحين، ومدى ايمانهم بفكرة الحوار، قبل التورط بدعوة البعض لمجرد الشهرة. فالشاب، حسب تعليمه الجامعي الغربي، سعى لتشكيل برنامج متكامل فبحث بالتفاصيل مع كل مشارك مضمون الورقة التي سيقدمها وتكاليف مشاركته (فلا احد يبذل جهدا في الغرب مقابل «ولو... تكرم عينك») بحسابات دقيقة؛ بينما ركز رئيسه «الشاطر» حساباته الدقيقة على فاتورة تليفون المكالمات مع نيويورك ولندن وباريس وبون؛ ليستقطعها من اجر الشاب بعد الندوة !

بعد مراجعة الديبلوماسيين والمختصيين وارشيفات الصحف والرسائل الجامعية، وقع اختيار الشاب البريطاني على مجموعة، تضمنت اعلاميين وساسة واهم خبراء الشؤون العربية في لندن وباريس ونيويورك وبروكسل وبون؛ ومتخصصين، يحملون جنسيات امريكية واروبية تطلب حكومات بلدناهم مشورتهم؛ مقابل اجر، لتعزيز التفاهم مع العالم الاسلامي .

وجد الشاب البريطاني الذي يعد لندوة العرب والغرب نفسه في الموقف الكافاكائي للطبيب الامريكي في مستشفى خليجي قبل 35 عاما. فخبراء يستشيرهم البيت الابيض وداوننغ ستريت والإليزيه في شؤون تعتبر صميم اعمال الندوة؛ «انكشف امرهم» لان اسماءهم ليست اندرو سميث، وجوني كلارك، ومايكل ستيفنسون... «شو هادول؟ عرب؟ بدنا خواجات ياخيي!». واحتار الشاب ممسكا في يده برزم صفحات طبعها من الانترنت ومن دائرة المعارف البريطانية، وفهارس مشاهير الكتاب والصحفيين بمؤهلات وخبرات تصنففهم كأهم اعلاميين ومتخصصين في شؤون التفاهم كـ «بريطانيين» و«امريكيين» حسب جنسياتهم القانونية (لا وجود لاسمائهم في تصنيف الفهارس للصحفيين والمتخصصين العرب).

كيف يقنع الشاب رؤساءه ان اسماء الاشخاص في اوروبا وامريكا لا تحدد هوية او جنسية المواطن او حتى ديانته في عصر العولمة وعهد ما بعد الامبراطوريات المتعددة الاعراق؟.

كيف يفيق من الكابوس الكافكائي شاب يمثله في برلمان وستمنستر نواب انجليز 100% باسماء كشاهد مالك، وخالد محمود واللورد احمد؛ وتفتخر بلاده بان احد ابنائها هو اهم جراح قلب في العالم منحته الملكة لقب فارس، الدكتور مجدي يعقوب، حيث لا يفكر ابدا أي بريطاني في انتماء «السير» مجدي يعقوب لهوية اخرى غير بريطانية؟

ورغم فصل مسافة 35 عاما بين تجربتي الطبيب الامريكي في الخليج وندوة الكويت، الا ان المحصلة تشير الى ان «عقدة الخواجة» قد يكون ظاهرها في 30% رسم قيمة مضافة، لكن مضمونها يكشف هوة تفصل بين العرب والغرب في مسافة التطور السياسي والقانوني.

مضمون عقدة الخواجة هو الغياب شبه الكامل لمفهوم المواطنة بابعادها القانونية والدستورية والثقافية والسياسية عن العقلية العربية.

فالطبيب الامريكي، والخبراء الغربيون الذين «شو .. هادول عرب؟» بحكم تعريف المواطنة القانوني والدستوري هم مواطنون في امريكا وبريطانيا وسيلجأون في حالة التعرض للمتاعب لقنصليات بلدان يقيمون فيها وينتخبون فيها برلمانا وحكومة يحاسبونها على الخدمات المتوفرة مقابل الضرائب التي يدفعونها.

اما مدير مستشفى الامارة الخليجية الذي لا يدفع ضريبة او ينتخب حكومة يحاسبها على ادائها، فلم تتح الفرصة بعد لتتحدد ملامح المواطنة في ذهنة.

الهوية عنده يحددها الانتماء لعشيرة او طائفة مما يجعل للأسم مدلولا يسهل للعقل العربي تفهمه وتقبله لانه لم يختبر تحديد المواطنة وبالتالي لا ينظر لخانة الجنسية في جواز السفر وانما تدله خانة الاسم على الانتماء. هذا العقل يترجم الهوية ايضا بالانتماء لكيان وهمي ايدولوجي خارجي لا وجود قانوني له «كالأمة العربية». وهو ميكانيزم دفاعي سيكولوجي لتصحيح الخلل في توازن فرق معاملة العمالة الوافدة التي تتحدث اللغة العربية عن معاملة «الوطني» أي ابن البلد، طالما ان الانتماء لكيان «كلنا عرب» يحقق «المساوة» الايدولوجية الثقافية الوهمية.

الانتماء «العشائري» عاجز عن الوصول للمواطنة كانتماء لكيان قانوني قائم هو الدولة القومية، التي يتجاوزها الانتماء الثاني الى كيان «كالأمة العربية» لا تعريف قانونيا او وجودا فعليا له في الواقع اليومي.

وربما عندما تضح ملامح المواطنة بمفهومها الدستوري في الذهن العربي، يمكن اقامة جسور التفاهم والحوار بين مواطني كيانات سياسية وثقافية محددة.