60 عاما.. وأحزانها لا تبرحنا

TT

لم أتردد يوما في إظهار إعجابي بطرافة تعبير «كوز المحبة اتخرم، عاوز له بنطة لحام»، الذي هاجمه الجميع باعتباره من نماذج الهبوط في الأغاني الشعبية، فقد رأيته صورة دقيقة لما يمكن أن يأتي على لسان سباك أو سمكري صاحب محل لحام. و«لحام» كلمة عربية فصيحة معناها ما يلائم به الصدع، ومن مشتقاتها «التلاحم مع الجماهير»! وإذا كان «كوز المحبة»، الذي هو وعاء المحبة، قد صار مثقوبا، فما هو الهابط في أن يستشعر القائل احتياجه إلى ما يلائم به الصدع أي إلى «بنطة لحام»؟ إنني أرى التعبير ظريفا وطريفا ويبعث على الابتسام، ولقد صارت تلك الصفات من سمات الأغنية الشعبية التي يحب أصحاب الحرف الشاقة والثقيلة والمرهقة أن يرفهوا بها عن أنفسهم يرددونها من دون أن تثقل على ألسنتهم أو تبتعد عن واقع خبراتهم اليومية، فمن ذا الذي يتوقع أن يتمتع العامل بين الحديد والنار والمنشار والقادوم في جلبة السوق بغناء «حلم لاح لعين الساهر، وتهادى في خيال عابر»؟ إن هؤلاء الناس لم يجبروا المثقفين على الاستماع إلى أغانيهم، فلماذا يريدون إجبارهم على غناء ما لا يستطيعون نطقه أو فهمه؟ لا شك أننا لا نريد أن يطغى الغناء «السوقي»، نسبة إلى السوق، على الغناء الرفيع لكن من طلب من المجلس الأعلى للثقافة أن يطبع ديوان شعر به «كوز المحبة»إلخ؟

تظل هذه الأغنية ومثيلاتها في محيطها وبين جمهورها لا تطلب التصعيد إلى الإذاعة والتلفاز، لكن هذا لا يمنعنا من أن نستشعر طرافتها وخفة ظلها.

استحضرت بقوة تلك الصورة الشعرية وأنا أقرأ وأستمع إلى آراء بعض كبار مثقفينا وأصحاب الفكر في أمور السياسة، خاصة في مسألة المقاومة الفلسطينية المستمرة على أرض فلسطين المحتلة تجابه الوحشية الصهيونية التي يفتخر زعماؤها بعنادهم اللا إنساني، ومطلبهم أن يرضخ الشعب الفلسطيني للظلم والبطش والمهانة والإذلال وإلا فإنها الإبادة بلا تردد للعجوز والمرأة والطفل والصبي والشاب وعابر السبيل بلا تمييز وبلا هوادة. قتل قتل قتل قتل أو حياة هي الموت، ولا اختيار ثالث بينهما. وحين يختار الشعب الفلسطيني الاستشهاد بالمقاومة لا يتورع أحدهم أن يقول «لن نحل الأزمة بقتل الأطفال». هكذا ببرود وثقة هائلة كأنه ينطق بالحكمة يسمي هذا المثقف الحكيم أو ذاك السياسي المحنك، «استشهاد» الأطفال «قتلا». كأننا نحن الذين نقتلهم. كأنهم يقتلون على أيدي ذويهم لا على يد التعسف الإجرامي للكيان الصهيوني. ما هذه العقلية؟ ألا تحتاج إلى «بنطة لحام» تلائم به تصدعها وثقوبها؟

إذا كان المجتمع الدولي المنافق الكاذب قد ارتضى أن يكون شيطانا ناطقا، ينحاز للقاتل ويتهم الشعب الفلسطيني بأنه يجعل من أطفاله دروعا بشرية فهل يجوز أن يردد أناس، محسوبون علينا عقليات لها وزنها، هذا الكلام الباطل «الهابط»، بدلالة الهبوط الفعلي الواقعي الحقيقي؟ وتسمع لآخر يطالب بأن «نتنازل قليلا»، نتنازل؟ هل لا تزال هناك مساحة لربع تنازل؟ أم لعلهم يقصدون أن تنخسف بنا الأرض؟ وإذا كان ولا بد أن تنخسف بنا الأرض ألا يكون من الأجدى أن نترك المجاهدين، المقاومين، في حالهم يختارون الاستشهاد كما يحبون؟ وتسمع من يقول كل ما يهم في الموضوع هو أمن مصر القومي، ونحن على غير استعداد أن نخسر ما خسرناه على طول الـ60 سنة الماضية، ما معنى هذا الكلام؟

هل يتهدد أمن مصر القومي بالمقاومة الشعبية الفلسطينية أم أنه تهدد ويتهدد بكيان صهيوني آمن مستقر متفرغ لسلخ وجوهنا؟

وما الذي خسرناه على طول الستين سنة الماضية؟ أخسرنا الاحتلال الإنجليزي؟ أم خسرنا عدم استسلامنا الفوري للدولة الصهيونية عقب إعلانها في 15/5/1948؟ أم خسرنا عدم رضوخنا الطوعي لسيادتها الاقتصادية والثقافية و«الحضارية» على منطقتنا وفقا لأهدافها ومزاعمها وخططها وخزعبلاتها وخرافاتها التي عبر عنها بوضوح ووقاحة إسحق رابين ومن قبله مناحم بيجن وباقي العصابة الصهيونية؟

وتقرأ لمن يقول إنه صار يكره العلم الفلسطيني من كثرة ما رآه ملتفا بأجساد القتلى، يقصد الشهداء، حتى صار مرتبطا في ذهن سيادته بالموت. طبعا معه حق طالما هو لا يعرف «عرس الاستشهاد» و«مجد الاستشهاد» وقوله سبحانه وتعالى في سورة الزمر آية 69: «وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق، وهم لا يظلمون». صدق الله العظيم.

لقد اعترف وعرف الجميع أن الدأب الصهيوني لاغتصاب أرض فلسطين وفرض احتلاله الإستيطاني بالتآمر والإرهاب قد تم على مدى أكثر من قرن، وهنا لنا أن نتساءل: هم قد صبروا على باطلهم حتى يتحقق فكيف يكون المطلوب منا أن نغفل عن حقنا و«نتنازل» حتى.. حتى ماذا يا سادة يا كرام؟

أغيثونا في هذه «الملحمة» ببنطة «لحام» نرتق بها ثقوب هذه العقليات الخرقاء.