بناء الجسور في البلاد النائية

TT

بدأ الكاتب البريطاني روديارد كبلنغ قصته الشهيرة «الرجل الذي كان سيصبح ملكا» The Man Who Would Be King من هذا البلد الجبلي النائي، أفغانستان. وعندما نسمع المقدم كريس كولندا وهو يسرد على عجل أسماء القبائل الرئيسية والفرعية في المنطقة، ندرك أنه والأميركيين الذين يرافقونه هنا يجسدون الشخصيات الذي ذكرها كبلنغ. وللحق، فإن قاعدة المقدم كولندا ما هي جزء من تلك «الأصقاع البعيدة» التي يستخدمها المسافرون البريطانيون في القرن التاسع عشر لوصف هذا الجزء من الكرة الأرضية، حيث تتمركز القاعدة في الجزء الجنوبي الشرقي من أفغانستان، وهي على بعد عدة أميال قليلة من الحدود الباكستانية. ولا يوجد هناك أي طرق ممهدة وليس ثمة كهرباء في أي من القرى، ولا حتى أي مجرى مائي. ووسيلة الوصول إلى القاعدة هي مروحية «بلاك هوك»، تحلق أعلى الأنهار الجارية والأودية الضيقة وسط سلسلة جبال هندوكوش. ويبدو المقدم كولندا كما لو كان هاويا لعلم الأنثولوجي وهو يتحدث عن التقسيم القبلي لمنطقة الكامدش، حيث تسعى القوات الأميركية في شمال هذه المنطقة إلى جذب الشيوخ ورجال الدين بعيدا عن المتمردين. ويعدد المقدم القبيلة الرئيسية وأربع قبائل فرعية و12 عائلة، وكل منها له تاريخه من العداوات والصداقات. ويضيف كولندا أنه إذا كان الجيش الأميركي لا يفهم الثقافة المحلية فسيرتكب الكثير من الأخطاء في محاولاته لعقد تحالفات تسهم في استقرار المنطقة. والمفاجأة هو أن المقدم كولندا، ومعه جنوده، قد تمكنوا من تحقيق بعض النجاح. فعندما وصل إلى هنا في يونيو (حزيران) الماضي، كان يصعب كثيرا على القوات الأميركية الذهاب إلى هذه المنطقة. وكان هذا سببا لبعض الصعوبات خلال الصيف الماضي تتعلق بجذب المتمردين بعيدا عن أماكن تركز السكان نحو المناطق الجبلية. وكانت استراتيجية كولندا تعتمد على استعادة قوة التركيبة القبلية العرفية، التي ضعفت خلال نحو 30 عاما من الحرب مقابل تنامي قوة معها المال والسلاح. وصل كولندا إلى صفقة مع شيوخ القبائل، فقد عرض عليهم الأمن، مقابل تنمية اقتصادية ممثلة في الطرق والجسور والمدارس والمستشفيات. وقام كولندا بتمويل هذه المشروعات سريعا من برنامج الطوارئ التابع للقيادة والذي أثبت أنه أحد أقوى الأسلحة الأميركية في العراق وأفغانستان. وبمرور الوقت كسب كولندا ثقة قادة القبائل، وتوجه إلى أحد معاقل المتمردين نحو 16 مرة ليعقد اجتماعات مع الشيوخ هناك. ولذا شهد هذا العام انخفاضا كبيرا في الهجمات التي تستهدف القوات الأميركية في معظم الأجزاء في هذه المنطقة.

وتستخدم أليسون بلوسر، وهي مسؤولة شابة في وزارة الخارجية الأميركية، نفس الأسلوب للمساعدة في توجيه فريق إعادة الإعمار الإقليمي في ولاية كنر، الموجود في أسد آباد. وتتحدث بلوسر اللغة البشتونية بطلاقة، وتبدو وهي ترتدي غطاء الشعر والقميص الواقي من الرصاص مثل غرترود بيل، المغامرة البريطانية في العشرينات من القرن الماضي. وتتبع بلوسر ورفاقها ما يطلقون عليه «استراتيجية الطرق» لاستقرار ولاية كنر، ويعد أكبر مشروع يقوم به الفريق هو بناء طريق ممهد ذي مسارين من جلال آباد إلى أسد آباد. ويعد هذا دليلا على التنمية الاقتصادية في أحد المعاقل السابقة للمتمردين. ويشعر شيوخ القبائل بمدى التغير بعد بناء هذه الطرق، ويريدون أن تمتد هذه المشروعات إلى قراهم. وترد بلوسر: «شيء رائع ولكن عليكم ضمان الأمن». وبات هذا لب الاستراتيجية التي تستخدمها القوات الأميركية في أفغانستان. فالمناطق التي يخليها الجيش، تقوم فرق الإعمار الإقليمية بتزويدها بالطرق والجسور والمدارس.

ويشير الجنرال دان ماكنيل، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، إلى أن المعارك ضد المتمردين قد غيرت من الجيش الأميركي. ويستذكر عندما كان قائدا لإحدى الكتائب في الثمانينات: «كنت أظن أن العالم يتحرك ويطلق النار ويجري اتصالات». ويضيف أن الجيل الجديد يفهم أن هذه المهارات الحربية التقليدية لن تكسب الحرب ضد التمرد في الوقت الحالي.

والمصطلح الحديث لما يقوم به الجنود والدبلوماسيون الأميركيون في أفغانستان هو «بناء دولة»، ولكن بعض هذه الاستراتيجيات يذكر بما كانت تقوم به وزارة المستعمرات البريطانية قديما. ولكن يقول ماكنيل أن أميركا لديها خبرة محدودة في هذا النوع من الكفاح، ولذا يشير إلى أن الجيش «مؤسسة تعليمية» وأنه يتعلم تدريجيا كيف يمكن له أن يشارك في مثل هذا النوع من الحرب. ومع هذا يجب أن نتذكر أن منظري الاستعمار البريطاني وجحافل الجيوش قد عجزوا عن قهر أمراء الحرب في أفغانستان.

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»