بيئة كويتية عاصفة

TT

عصفت بالكويت على مدى الأسبوعين الماضيين رياح وعواصف موسمية تسمى «السرايات». وهي هبوب عواصف رملية محملة بأمطار رعدية تزخ البرد وشديدة الريح. وقد تسببت إحداها بمقتل ثلاثة أشخاص ودمار طال منشآت ومباني خاصة وعامة، إضافة إلى إغلاق المطار والموانئ بسبب انعدام الرؤية.

تتزامن هذه الأعاصير مع انتخابات برلمانية أعقبت حل مجلس الأمة الشهر الماضي بسبب استقالة الحكومة التي أعلنت عدم تعاونها مع مجلس الأمة.

في مقرر اللغويات التاريخية، أتحدث مع الطلبة بالجامعة كثيرا حول العبارات والكلمات الحديثة التي يستعملونها، وأسألهم باستمرار عن معانيها، أو إن كانوا قد سمعوا عن هذه الكلمة أو تلك، وأسجل من الكلمات ما يعرفون وما يجهلون. المقرر يتعلق بتطور اللغات وتنوع اللهجات وجديد الكلمات وما مات منها وولى وفات.

عجيبة تلك الفجوة اللغوية بين جيلي والجيل الذي ولد في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. سألتهم عن أصل أسماء بعض الأماكن في الكويت، فلم يعرفوا منها اسما واحدا. ظننتها حالة كويتية، فرحت أسأل طلبتي العرب بالجامعة عن أصل بعض الأسماء في بلادهم، فوجدتهم بنفس جهل زملائهم الكويتيين.

أسماء الطيور التي حلقت فوق رؤوسنا صغارا في بيئتنا الكويتية (والخليجية عموما) غير موجودة في قاموس أبنائنا: حمروش، «أم دقي»، «حمامي»، «سلاحي»، «دجاجة عدي»، «درج»، «باشق»،«لقلق» و«رهيز»، هي بعض من أسماء الطيور التي لم ير أو يسمع بها أحد من الطلبة.

«حوى» و«حمبزان» و«سعدان» و«صفار» و«ربل» و«إرقه» ـ هي كلمات نباتات صحراوية كانت على بعد أمتار من قرانا وتنبت في مرابعنا، لكنها كلمات أشبه بالطلاسم بالنسبة للجيل الجديد.

«خزامى» ونفل ونوير وقحيوان (أقحوان)، زهور صحراوية كانت تبث عبقا فواحا في ربوع الصحاري في موسم الربيع الزاهي، لكنها كطائر العنقاء المنقرض بالنسبة لجيل لم يسمع بها من قبل.

عددت أنواع الجمال وألوانها وأحجامها وأشكالها وفئاتها العمرية: مجرور ـ حوار ـ حاشي ـ بَكرة ـ قعود ـ فاطر ـ معشر ـ حايل ـ فحل ـ رحول ـ عشوا ـ جيش ـ هجن. الألوان: مجاهيم ـ مغاتير ـ شقحا ـ وضحا ـ بيضا ـ صفرا ـ حمرا ـ زرقا... ارتفعت بعض الأيادي في القاعة استجابة لبعض هذه الأسماء. تذكرت موضة «مزاين الأبل» على الفضائيات، وسباق الهجن المتكاثر في منطقة الخليج. الكلمات الواردة أعلاه تلاشت تماما من لهجة جيلنا الجديد، وكلي ثقة بأن مرادفاتها في اللهجات العربية الأخرى أصبحت أثرا بعد عين في لغة الجيل العربي في كل مكان.

كرجل في منتصف العمر، شعرت كباقي جيلي «بالحسرة» الغريزية: إيه! شباب هالأيام، ما فيهم فايده!! عبارة تكررت على مسامعنا ونحن أطفال صغار. لكنها تأوهات حنين للشباب لا تلامس فهم الواقع. فكلمات اللغة انعكاس للبيئة، والبيئة المحيطة لم يعد فيها جمال وراحلة للركوب كوسيلة للمواصلات، ولا كمصدر للحليب واللحم والصوف.

لم يعد في بيئة اليوم طيور الماضي التي اختفت من فضائنا، وبالتالي من غير المنطقي أن نسميها بأسمائها، فهي ليست موجودة. وقضى التصحر على كل أنواع الحياة البرية، وانطمرت زهور الصحاري والفيافي والقفار تحت طبقات الكثبان الرملية التي تزحف كالبحار الهائلة تحاصرنا من كل حدب وصوب.

البيئة في خطر! لكن الحديث عن البيئة يعد ترفا في نظرنا، ونراه «فلسفة» غربية يرددها بلا إيمان بها أولئك الذين درسوا في الغرب ويريدون أن يشار لهم بأنهم «متحضرون» يحافظون على البيئة.

غطى غبار كثيف سماء الكويت منذ ديسمبر الماضي واستمر متقطعا بكثافة وقت كتابة هذا المقال. هي ظاهرة غير مسبوقة، متزامنة مع خطاب انتخابي غير مسبوق في تاريخ الحياة النيابية الكويتي: المعارضة التقليدية في صف الحكومة، والموالون الحكوميون معارضون لها!!

إنها حقا بيئة كويتية عاصفة!! بل لعلها تغيرات بيئية عربية عارمة!!