عرض إسرائيل النهائي: حكم ذاتي واستمرار الاحتلال

TT

إشارات قادمة من إسرائيل، تستحق وقفة لما تنطوي عليه من دلالات. الإشارات تؤكد أن إسرائيل تضع نفسها في موقف هجومي يطغى على كل إشارات السلام.

القاهرة أطلقت، باتجاه إسرائيل، اتفاق التهدئة بين الفصائل الفدائية، وتبرع الرئيس حسني مبارك أن يتصل شخصيا بوزير الدفاع إيهود باراك ليبلغه بجهوده، ولكن الجواب جاء من المجلس الأمني الوزاري المصغر قائلا إن أغلبية أعضاء هذا المجلس يرفضون التهدئة. وبدأت بعد الرفض حملة مضادة قال فيها آفي ديختر، وزير الأمن، إن مصر تبشرنا بالتهدئة بينما هي تتغاضى عن تهريب السلاح عبر الأنفاق إلى غزة. وساهم ايهود باراك بالحملة المضادة من خلال استنكافه عن حضور الاجتماع الأمني المخصص لبحث التهدئة، وبهذا تكون التهدئة قد فشلت في لحظة ولادتها.

تركيا أبلغت سوريا أن رئيس الوزراء ايهود اولمرت مستعد لمفاوضات تبحث الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، بينما كان وزير الدفاع نفسه يجري في اليوم التالي مناورات عسكرية في الجولان ويقول إن هذه المناورات هي استعداد لحرب محتملة مع سوريا.

وحتى على صعيد الإشارات الإنسانية بادر اولمرت إلى هجوم مماثل، فقد رفض تقديم اعتذار عن مقتل أم وأبنائها الأربعة في بيت حانون (يوم 24/4/2008)، وكان أقصى ما قاله إنه يأسف لهذا الحادث. وزاد الطين بلة معتبرا أن حركة حماس هي التي تتحمل مسؤولية هذا القتل الشنيع.

لا تترك هذه الإشارات أية فسحة للحديث عن نيات إسرائيلية غير عدوانية، فهي تواصل جو المواجهة، لأنها تبيت أمرا يخص المنطقة، وهو بالتأكيد أمر يرتبط بالتوجهات الأميركية، وبخاصة بعد عودة الرئيس محمود عباس محبطا من واشنطن، بعد فشله في الحصول من الرئيس الأميركي على مجرد وعد بالضغط على إسرائيل لكي تلتزم بما وافقت عليه في أنابوليس. وتفهم إسرائيل فورا أن موقف الرئيس الأميركي هو تشجيع لها على مواصلة سياسة التوتير والعدوان. ثم تتجمع هذه الإشارات كلها لتصب في البؤرة الفلسطينية، حيث يتضح يوما بعد يوم أن إسرائيل ترفض، بشكل منهجي ومدروس، البحث في تسوية سياسية مع الفلسطينيين تقود إلى إنشاء دولة مستقلة. ويتضح يوما بعد آخر، وجلسة بعد أخرى، أن أقصى ما تسعى إليه إسرائيل هو قيام حكم ذاتي فلسطيني يبقى خاضعا للسيطرة الإسرائيلية. وهي لا تقول ذلك علنا، ولكنها تضعه موضع الممارسة الفعلية، حين يلتقي اولمرت مع عباس، أو حين تلتقي تسيبي ليفني مع أحمد قريع. ففي تلك اللقاءات تقدم إسرائيل خرائط تكشف طبيعة الحكم الذاتي الذي تقترحه على المفاوض الفلسطيني، أحيانا تحت إسم «دولة»، وأحيانا أخرى تحت إسم «رسم ملامح الدولة». فماذا تقول هذه الخرائط الإسرائيلية؟ الخريطة التي أعدها مكتب اولمرت، وعرضت على محمود عباس قبل سفره مستنجدا إلى واشنطن، تطرح القضايا التالية:

أولا: (منطقة القدس الكبرى)، مستثناة من التفاوض، وهي جزء من دولة إسرائيل تم ضمه إليها عام 1967، وهي تمتد من أطراف رام الله إلى أطراف مدينة بيت لحم.

ثانيا: (منطقة الحوض المقدس)، التي تشمل البلدة القديمة في القدس، وحي سلوان، تكون السيادة عليها إسرائيلية، ويمكن في إطار هذه السيادة أن توجد «إدارة» فلسطينية للأماكن المقدسة، أو إدارة عربية ـ إسلامية للمسجد الأقصى والأوقاف الإسلامية.

ثالثا: (الكتل الاستيطانية) في الضفة الغربية، يتم ضمها كلها إلى إسرائيل. ويحق لهذه الكتل أن تتوسع أفقيا لتحقيق التواصل الجغرافي فيما بينها. أما الأراضي الفلسطينية المقطعة، فلا يحق لها أن تتواصل أفقيا، ومسموح لها فقط أن تتواصل من خلال الجسور والأنفاق.

رابعا: (منطقة غور نهر الأردن)، تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية مع مستوطناتها، وهي تشمل منطقة واسعة بعمق 17 كلم تمتد من نهر الأردن إلى أطراف منطقة طوباس.

خامسا: (قضية اللاجئين)، ترفض حكومة اولمرت عودة أي لاجئ فلسطيني إلى دولة إسرائيل، وتوافق على لم شمل لعشرة آلاف شخص فقط. وقد عرضت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني الخريطة نفسها المقترحة للحل النهائي على أحمد قريع رئيس طواقم المفاوضات، ولخصتها بثلاث نقاط: سيطرة إسرائيل على الكتل الاستيطانية، وسيطرة إسرائيل على منطقة القدس، وسيطرة إسرائيل على غور الأردن.

وبينما كان محمود عباس وأحمد قريع يتلقيان صدمة الخارطة، كل على حدة، كان وزير الدفاع ايهود باراك، يوسع نطاق الخرائط الإسرائيلية للحل النهائي، ويقول إن التلال القائمة في وسط الضفة الغربية، تشرف على مطار بن غوريون (في اللد)، وهو منطقة حيوية، وإذا كانت هناك تسويات، فيتعين لدى إبرامها إبقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية داخل المنطقة بأسرها، أي داخل أراضي 1967.

وعلى ضوء هذه الصورة التي ترسمها الخرائط، فإن الجغرافيا تصبح عاجزة عن إنشاء دولة مستقلة. ثم يأتي الأمن الإسرائيلي الذي يجب أن يبقى ويسيطر، ليكمل بقية الطريق، ولا يعود هناك من مجال مفتوح إلا لقيام حكم ذاتي يخضع تماما للسيطرة الاستراتيجية الإسرائيلية، اقتصاديا وأمنيا. وحين يأتي الرئيس الأميركي جورج بوش إلى المنطقة بعد أيام، ليحتفل بالذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل، فهو إنما يأتي ليبارك هذه الخريطة، وبخاصة بعد أن تم الإعلان عن أن زيارة بوش لن تشهد لقاء ثلاثيا يضمه مع اولمرت وعباس. أي أن الزيارة ستوفر دعما لأولمرت، أولا ضد الرئيس الفلسطيني، وثانيا ضد الدول العربية التي سيزورها بعد ذلك. وبهذا يصبح الموقف الأميركي داعما أساسيا لسياسة العدوان الإسرائيلية، وداعما أساسيا لسياسة رفض التهدئة سواء مع الفلسطينيين أو مع سوريا.

ومن المفيد أن نتذكر هنا، أن هذه الخرائط الإسرائيلية، والموقف الداعم لها، قد تم تسجيلها رسميا في رسالة حملت إسم (وعد بوش)، وقدمها مكتوبة إلى رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون عام 2004، وتضمنت تلك الرسالة في حينه اعترافا أميركيا بالمستوطنات، واعترافا أميركيا بحق إسرائيل في أن لا تعود إلى حدود 1967، واعترافا أميركيا برفض عودة اللاجئين الفلسطينيين. وسجلت الإدارة الأميركية بهذا الوعد أكبر وأخطر إخلال بالقانون الدولي وبالشرعية الدولية، وهي تواصل تنفيذ هذا الوعد حتى الآن.

يطرح هذا الوضع على القيادات الفلسطينية واحدا من أمرين:

أ ـ التخلي عن المفاوضات والعودة بصورة جماعية إلى استراتيجية المقاومة للاحتلال.

ب ـ قبول نظرية توني بلير مندوب اللجنة الرباعية الدولية، والتي تركز فقط على تلقي قروض ومساعدات هدفها تحسين الشؤون المعيشية للفلسطينيين، مع قبول منطق الرضوخ للاحتلال. ويطرح هذا الوضع على القيادات العربية أمرا واحدا فقط، خلاصته أن إسرائيل ترفض وبشكل نهائي مبادرة السلام العربية، وهو رفض من شأنه أن يدفع بالعرب، فرادى ومجتمعين، إلى البحث في النتائج المترتبة على هذا الرفض الإسرائيلي.

وكما أن الخيارات الفلسطينية المتاحة تستدعي كلها إعادة النظر بالوحدة الوطنية الفلسطينية، فإن الخيارات العربية المتاحة تستدعي كذلك إعادة النظر بعلاقات التضامن العربية، حماية لكل بلد عربي على حدة، من خطر النوايا العدوانية الإسرائيلية. لقد دارت القضايا العربية سنوات طويلة، وها هي تعود من دورانها إلى نقطة البدء. إذ ثمة خطر إسرائلي يتهدد الجميع، وهو خطر مدعوم بسياسة أميركية صريحة تستدعي سياسة عربية من نوع جديد. وإذا كانت الجامعة العربية قد لمَّحت في آخر قراراتها إلى إمكان سحب المبادرة العربية من على الطاولة، فإن الكل يتحمل مسؤولية مواجهة ما يترتب على ذلك من نتائج. مع ضرورة التأكيد على أن الخطوة الأولى في هذا السبيل مطلوبة أولا من الفلسطينيين، ومطلوبة بشكل خاص من القادة الذين راهنوا على مبدأ «التفاوض» كما لم يراهن أحد من قبل، وها هي النتائج تتحداهم، فإما قرار سياسي من نوع جديد، وإما إقرار نهائي بالفشل ستترتب عليه نتائج خطيرة.