مدينة الصدر: تغير الأزمان وثبات الحال

TT

تصدرت مدينة الصدر صدارة الاحداث للاسابيع الماضية ليس لخطط تنمية واعدة او مشاريع اعمار او ازالة ظلم تأريخي تراكم عليها او لتفكيك عشوائياتها السكنية واستبدالها باخرى صالحة للعيش الانساني، ولا بتحولها لخلية عمل، ولا لايثار قواها السياسية واندكاكهم بالخدمة المجتمعية وتفانيهم في جلب الخدمات لمدينتهم، ولا ببرامج رعاية ايتام خلفتهم وتخلفهم حروب الحماقات ولا اخرى لتأهيل اراملها، كل هذا المأمول الذي ليس فيه ترف بل هو ازالة ليسير من غبن عشرات السنين لم يتصدر بل تصدرت اخبار الاقتتال وصور المعاناة الانسانية اليومية لابنائها.

هذه المدينة التي تغيرت فيها الاسماء وبقي فيها الحال فقد حملت في البداية اسم (الثورة) عندما انشأها الرئيس عبد الكريم قاسم في نهاية الخمسينات من القرن الماضي لتوطين الفقراء النازحين من ريف الجنوب العراقي الى بغداد اثر تردي الزراعة وجور الاقطاع ملاك الاراضي وللبحث عن فرص عمل في مشاريع مجلس الاعمار وملاذ للهاربين من البؤس الى مجاورة المدن ولو باحلامهم، ثم غيرت تسميتها بعد انقلاب عبد السلام عارف عام 1963 الى (حي الرافدين) ثم غير الاسم في عهد حكم صدام حسين الى (مدينة صدام ) ليسميها ابناؤها بعد سقوط حكم صدام الى ( مدينة الصدر ) اكراماً للسيد محمد محمد صادق الصدر الذي اغتاله صدام عام 1999.

هذه المدينة المتكونة من ثمانين قطاعا وبالف بيت لكل قطاع وبكثافة بشرية هي الاكبر، اذ يسكنها مع العشوائيات التي قامت على كتوفها مليونان ونصف المليون في مساحة لا تتعدى 34 كيلومترا مربعا مقارنة بمساحة العراق الشاسعة التي تقارب نصف مليون كيلومتر مربع، يسكنون في بيوت مساحتها مائة واربعة واربعين متراً منشطراً بعضها مع الزمن الى مسكنين في حين في كل بيت تحت الاضطرار تكاثرت وانشطرت العائلات منتجة بيئة خصبة لكل المشاكل الاجتماعية.

رغم ان المدينة ضمت تركيبة عشائرية متجانسة حيث شكلت امتداداً لعشائر الجنوب ولمحافظة العمارة تحديداً فان سلطة العشائر مع التقادم اضمحلت ليس لمصلحة المواطنة بل لمصلحة القوى السياسية اولاً ثم الدينية لاحقاً، الا انها ضمت تركيبة اجتماعية متباينة في مستوياتها الاقتصادية والثقافية والتعليمية، فامتهن ابناؤها جميع المهن، استاذ جامعي، طبيب، محامي، فنان، رياضي، عمال بناء، دافعو عربات، وبائعون متجولون، وعتالون، وغالبهم الاعم يراوح ما بين بطالة حقيقية واخرى مقنعة.

ورغم تغير دورات الزمن ومعها الانظمة السياسية وافول حكومات وبزوغ اخرى الا انه ظل قائماً تحالف وثيق عقد بين الموت والفقر هدفه اهالي مدينة الصدر فهم كانوا ما بين موتين، موت بسبب الحروب العبثية وموت الملاحقة للخصوم الايديولوجيين والسياسيين لحزب السلطة انذاك. والمظهر الثاني على تغير الزمان وثبات الحال ان هذه المدينة ظلت الممول البشري لقوافل الحروب وقتلاها حيث ان ابناءها شكلوا القاعدة الاساسية للجيوش النظامية وكذلك للتشكلات المسلحة التي انشأها النظام السابق في حين هي اليوم تمثل المعقل الاساسي لمقاتلي جيش المهدي، لذا فقد ظل نصيبها من الموت محفوظاً سواء بفعل ماكنة الحروب العبثية او تحت عناوين المقاومة ونصرة الدين. والملاحظة الثالثة اللافتة ان المدينة ظلت مركزاً للملاكات الشبابية لمختلف التيارات السياسية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، من الاسلامي الى الماركسي الى الليبرالي، فنالت من جراء ذلك نصيبها من التهجير والاعتقالات والاعدامات بدون ان تنال حظوظها في برامج هذه الاحزاب او مكاسبها او منافعها او صدارة قياداتها، بل حتى عندما تصدر الديني المشهد فانه ظل بلا مضمون اجتماعي رغم انه قام على شرعية وقوفه بالضد من ارث الفوقية الطبقية التي طالما همشت ابناء الجنوب وتعالت عليهم ومثلت لاحقاً البرجوازية الشيعية الوليدة، في حين حتى القيادات السياسية والمجتمعية التي افرزتها المدينة فانها لم تكتسب شرعيتها او صدقيتها بان تمر بدورة الحركات الاسلامية التي عادة ما تصل الى السلطة على قاعدة عريضة من الخدمات المجتمعية وشبكة من مشاريع العون تكون قد سدت فيها غياب السلطة واهمالها.

واذا كان الزمن في الحالات السابقة قد توقف فان الادهى هو عندما يشهد الزمن ارتداداً، فالمفارقة انه في حقبة الديمقراطية يتم التراجع، وباستبداد المجتمع وليس الدولة هذه المرة، عن التعددية التي احتضنتها المدينة في ستينات وسبعينات القرن الماضي عندما كانت تتعايش فيها الافكار والحركات اليسارية والقومية والاسلامية وتتحاور في اجواء حضارية، والمفارقة ان يضيق فضاء الابداع وتغيب التجارب الطليعية والرائدة التي عرفتها المدينة على صعيد الفن والادب والمقاهي الثقافية والمسرح الذي كانت تتبارى فيه وتتنافس التجارب والمناهج، فطالما عرفت المدينة بمدها للفضاء الابداعي بالفنانين والقصاصين والروائيين والشعراء والمسرحيين والرسامين والاعلاميين والرياضيين، فالغريب ان تختزل كل مناحي الابداع هذه لمصلحة ثقافة واحدة قسرية منمطة للحياة قاتلة فيها الفرح.

واخيراً بدل كل الطموحات التي عولت على الديمقراطية وعلى حقبة ما بعد الدكتاتورية وعلى صعود المدينة كرقم انتخابي هام يخطب الجميع رضاه، تواضعت الاماني وباتت تختفي بأن تنشد مصيرا افضل لهذه المدينة ينفض عنها غبار ظلم واهمال السنين وان تكسر حلقة الموت والجهل التي تطحن ابناءها الذين لا يحلمون باكثر من توفير قوتهم ليوم واحد، اما اليوم الثاني فكلهم امل ان الله سوف لن يتخلى عنهم.