جنب الجامع مع كوندي

TT

هي نشأت في الجنوب الأميركي في ظل نظام الفصل العرقي في مدينة برمنغهام ألاباما، التي انطلقت منها شرارة العصيان المدني ضد التمييز العنصري في ستينيات القرن الماضي، وأنا تربيت في الجنوب المصري في غرب الأقصر، والتقيتها في لقاء خاص في منزل السفير الأميركي في لندن، منزل أقرب إلى قصر، ويعرف بونفيلد هاوس، أهدته الأسرة التجارية المعروفة صاحبة سلسلة محلات وولورث الشهيرة للسفير الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.

يقع المنزل إلى جوار مسجد ريجنت بارك والمعروف بالمركز الإسلامي في لندن، على حافة حديقة ريجنت بارك وسط لندن. وتحدثنا عن فلسطين وعلاقتها باستقلال كوسوفو، دولة إسلامية في قلب أوروبا. لقاء مطول وخاص مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. حضر اللقاء شون ماكورماك مساعد الوزيرة الأميركية من ولاية مين في الطرف الشرقي من الولايات المتحدة الأميركية، ولاية لا يوجد بها أميركيون من أصل أفريقي إلا ما ندر، ولا أعرف عنها سوى ما قرأته في رواية للكاتبة الأميركية كارولين شوت بعنوان «عائلة البين في مصر، بولاية مين» (The Beans of Egypt, Maine)، رواية تؤرخ للفقر والبؤس في واحدة من الولايات الأميركية الصغيرة. برمنغهام ألاباما، وغرب الأقصر، وجامع في قلب لندن إلى جوار بيت السفير الأميركي، ودولة إسلامية في أوروبا، وفقر وبؤس واحتجاج في الجنوب الأميركي، عولمة بامتياز. هذا التراص المتناقض بين الجامع وبيت السفير، بين وزيرة سمراء قادمة من الجنوب الأميركي ومحاور قادم من أقصى الصعيد، ربما يكون مدخلا لفهم تعقيدات عالمنا الذي يبدو منسجما، لكنه في حقيقة الأمر عالم قلق بمتناقضاته الموضوعة جنبا إلى جنب، لا نعرف بعد إن كانت هذه المتناقضات المتلاصقة ستنجح في التناغم مع بعضها وفي أن تستقر في النفوس وعلى أرض الواقع.

سألت الوزيرة رايس عن تجربتها الشخصية في برمنغهام بولاية ألاباما، وكيف أثرت نشأتها كطفلة في واقع الفصل العنصري المؤلم على رؤيتها اليوم للعدالة في الشؤون الدولية وهي وزيرة خارجية الدولة العظمى في العالم. فكان ردها أن التعليم كان مخرجها، كما كان مخرج الكثيرين من فقراء العالم ومضطهديه للتخلص من براثن الفقر وظلمات الاضطهاد إلى نور الحياة الإنسانية الكريمة. «وهذا ما دفعني لاحقا إلى التركيز على قضية توفير التعليم للجميع كوسيلة للنجاح.. وهذا ما جعلني أدعم وأتبنى كثيرا من البرامج التي تحفز على التعلم عندما كنت أترأس جامعة ستانفورد (في ولاية كاليفورنيا). التعليم يمنح المرء، الأفق الأرحب الذي يمكنه من ممارسة طموحه وتحقيق أهدافه مهما كانت الصعوبات والظروف القاسية التي تواجهه».

النقطة التي حاولت رايس إيصالها للقارئ العربي، هي أن تجربتها الشخصية لها دور في تفهمها للجانب الإنساني في القضايا الدولية الشائكة التي تتعاطى معها بحكم موقعها، مثل القضية الفلسطينية، إذ قالت: «وعندما أنظر تحديدا إلى الوضع الفلسطيني، أتفهم كيف أن الأسر الفلسطينية، لا تستطيع أن تمنح أبناءها الأمل في مستقبل ناجح، في ظل أفق سياسي ضيق ومحدود. ولكن لا بد أن يأتي اليوم الذي يعيش فيه الفلسطينيون في دولتهم المستقلة. إن ما نطمح إليه أن يأتي اليوم الذي يحلم فيه طفل فلسطيني بأن يصبح رئيسا لدولة فلسطين عندما يكبر. هذا ما نطمح إليه حقيقة.. تجربتي هذه خلقت لدي تعاطفا أكبر مع الجانب الإنساني في القضايا الدولية. فالعلاقات الدولية ليست تقوم على مؤسسات ودبلوماسية وقيادات فقط، وإنما من المهم أيضا في العلاقات الدولية أن يكون لدينا إحساس بالجانب الإنساني».

عند الحديث مع رايس عن الاضطهاد والتمييز العنصري الذي لحق بالأميركيين من أصول أفريقية، تغيرت ملامحها شيئا فشيئا ولم تعد تبدو كوزيرة خارجية الدولة العظمى، بل بدت ككل الأميركيين من أصول أفريقية وهم يتذكرون تلك الفترات المظلمة من التاريخ الأميركي. يبدو أن خبراتنا الشخصية تظل معنا مهما كبرت المناصب، كما يظل الإنسان محكوما بجوهر ما طبعته به تجربة شخصية في الصغر. ففهم الوزيرة الأميركية للديموقراطية هو فهم مختلف بالتأكيد، فهي ترى أن الديموقراطية مشروع لم ينته بعد، وأن الكفاح من أجل العدل والمساواة لا ينتهي أبدا. وهذا خطاب قد تسمعه من امرأة خبرت الظلم في المخيمات الفلسطينية أو في ألاباما. فرايس ترى أن «تحقيق الديمقراطية والمساواة ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى جهد كبير دائم ومستمر، حتى في المجتمعات التي تعتبر نفسها مجتمعات ديمقراطية مثل الولايات المتحدة. فقضايا العدل تتطلب كفاحا يوميا، وساعة بساعة، والصراع لأجل تطبيقها لا ينتهي أبدا».

كان في حديث الوزيرة إصرار غير معهود على أن الدولة الفلسطينية قادمة لا محالة، وكان في نبرتها تحد واضح، حيث قالت حتى من أصدقاء الرئيس الأميركي جورج بوش هناك من يشكك في قدرة الولايات المتحدة على قيام الدولة الفلسطينية، والوصول إلى حل نهائي. «كثيرا ما يسألونني: إذا كانت هذه المعضلة التاريخية قد استعصى حلها على كثيرين، فلماذا تظنين أنك قادرة على حلها؟ السؤال نفسه وجه أخيرا إلى الرئيس جورج بوش من قبل أحد أصدقائه، قائلا له: لماذا تظن أنك قادر على حل هذا الصراع المزمن؟ نستطيع إقناع المشككين والمتشائمين في العالم العربي، فقط عندما ننجح في التوصل إلى اتفاق وحل. المتشككون سيبقون متشككين، ولكن يجب ألا نحكم على الأمور من خلال هذه الزيارة أو تلك. لقد قال الرئيس جورج بوش، وكذلك الأطراف المعنية، بأنه سيكون هناك اتفاق في نهاية العام. وهذا سيكون إنجازا تاريخيا عظيما، إذا ما أخذنا في الاعتبار السنوات العديدة التي استغرقها هذا الصراع. لذا يجب ألا نحكم على المباراة قبل انتهاء مدتها الزمنية، فلا تمكن معرفة نتيجة المباراة من نتائج الشوط الأول فقط».

كانت رايس واضحة فيما تطلبه الإدارة الأميركية من سورية في لبنان وفي العراق وفي الملف الفلسطيني. الغريب أن رايس لم تذكر قضية المفاعل السوري النووي، ولم تتطرق له رغم طول الحديث عن سورية. فتحت رايس في حديثها نافذة للصلح مع إيران، فقالت ان أميركا ليس لديها أعداء دائمون، وضربت مثالا على ذلك اليابان وليبيا. واكدت أن لدى إيران خيارات لا بد أن تحسم أمرها فيها، ولكنها لم تستبعد فكرة التحدي والمواجهة، إذ تقول: «إيران تقف وراء كل مشاكل المنطقة». وقالت: «نحن نقوم بدعم قدرات حلفائنا لمواجهة الخطر الإيراني، والترتيبات الأمنية التي نقوم بها في منطقة الخليج ذات أهمية عالية في هذا الشأن. ومن جهة أخرى، سنتصدى لإيران فيما يخص سلوكها في العراق، لأنها تدعم عمليات هناك تعرض قواتنا للخطر وتؤدي كذلك إلى قتل العراقيين الأبرياء، ونحن جادون ونشيطون جدا في مواجهة عملاء إيران في العراق».

إن ما قالته رايس في لقائي معها حول قضايا الشرق الأوسط مهم وجدي، ولكن لم تغب عن ذهني أيضا صورة المتناقضات المكانية والرمزية التي لفت هذا اللقاء، من مسجد ريجنت بارك الكبير مجاورا قصر السفير الأميركي، إلى الحديث مع الوزيرة السمراء الجنوبية عن دولة إسلامية في قلب أوروبا، إلى الطفل الفلسطيني الذي يحلم بأن يصبح رئيسا لدولة فلسطين.. عولمة بامتياز.. ولكنني سأتبع نصيحة كوندوليزا رايس بألا أحكم على نتيجة المباراة بناء على الشوط الأول فقط، وسأنتظر صفارة النهاية، ولا أدري إن كانت صفارة نهاية زمن الإدارة، أم صفارة إعلان الدولة الفلسطينية!