الإدارة

TT

عندما جئنا الى لندن، اكتشفنا أنها أكبر متحف عربي: أجمل لوحات المستشرقين هناك. النسخ الأصلية من دواوين الشعر هناك. أهم وأعظم كتب وتدوينات ووثائق المؤرخين والرحالة والسياسيين والدبلوماسيين والمخربين، هناك ايضاً.

جميعها هناك، لسبب بسيط لم يعد سراً منذ ان سك أهل بابل أول قطعة نقد ووضع الفينيقيون اول فاتورة لشحن الخشب والنسيج والتنك! كان المال والاستعمار هناك والتخلف والمستعمرون هنا. ولذلك امتلأت متاحف بريطانيا (وفرنسا وسواهما) وغاليرهاتها ومكتباتها بما وضعه المستعمرون من مشاهدات وانطباعات عنا. وفي هذه المرحلة صدر كتاب ادوارد سعيد عن الاستشراق، فبدأ الانتقام الادبي من الماضي. وحدثت الطفرة النفطية الاولى فطفق العرب يشترون ما وقعت عليه أيديهم وأذواقهم من تحف وآثار. وراحت دور المزاد وبيوت التجارة تستفيد من اللحظتين: فقر المستعمرين الذين بدأوا يبيعون ما يملكون وغنى أصحاب الارض وما تفجر فيها. وكثر عدد «هواة» الاقتناء. وكنت أمرّ على المعارض في «ويكومب» ستريت وأقف خلف الزجاج الخارجي. أتأمل اللوحات الشرقية ولا أجرؤ على السؤال عن اسعارها فقد كانت عندي فكرة واضحة عن أمرين: اسعار مثل هذه اللوحات، وطاقتي.

الصحافة نوعان: نوع يمنح الشهرة ويمنح الكاتب عدداً وافراً من القراء، وهناك النوع الآخر. ويسمى في عالمنا، وفي الشيفرة، الصحافية، «الادارة». أي المال. وقد بدأت العمل الصحفي في مرحلة واحدة تقريباً مع الزميل بسام فريحة. أنا جهدت في البحث عن القراء، والزميل العزيز دخل الى «الادارة» لكي يبحث عن سعادتهم ورخائهم وطاقتهم على الإعلان.

لم يكن خياره صعباً. فقد كان والده سعيد فريحة الكاتب الأكثر شعبية وقراء ومعجبين. وكان يقترض آخر كل شهر ليدفع رواتب المحررين والعاملين. وعندما تسلم بسام الادارة في «دار الصياد» كان أول ما فعله ان حدد راتباً شهرياً لمؤسس الدار. ونجحت التجربة ثلاثة أشهر، اكتشف بعدها ان مائة راتب لا تكفي لطريقة سعيد فريحة في العيش والاعطاء والكسب والخسارة.

واتخذ بسام طريق «الادارة» لكي يؤمن رواتب سعيد فريحة ومئات العاملين في الدار. وترك أمثالنا يكتبون ويبحثون عن سعادتهم في بريد القراء. وقد تلقيت الشهر الماضي بياناً من «دار الساقي» حول مبيعات الكتب الثلاثة التي صدرت عن الدار: الطبعة الثانية من «قافلة الحبر» على وشك ان تنفد. «جنرالات الشرق» نفدت تقريبا إلا مائة نسخة. «مقال الاربعاء» بيعت نصف نسخه في 4 أشهر. صافي الأرباح؟ سعادة فائقة.

قبل يومين أرسل اليّ بسام فريحة كتاباً ضخماً بالألوان عن لوحات المستشرقين اعتقدت انه صادر عن أحد المتاحف او عن «دار سوذبيز». وقلّبَت الصفحات لوحة بعد لوحة، فإذا هي في النهاية المجموعة الخاصة للزميل العزيز. الادارة تقتني اللوحات وترسل لنا صوراً عنها. والحياة خيار، اما لوحات، او بريد قراء وكلاهما جميل.