ولله في خلقه شؤون (!)

TT

هل صحيح أن من ترك المشي، يتركه المشي؟!

(ممكن آه، وممكن لأ)، لأنني شخصياً قد اترك وأتوقف عن المشي شهراً كاملاً، لا أتحرك من مكان إلى مكان إلا زحفاً، أو على عجلات، وفي الشهر التالي تتلبسني حالة نشيطة (زنبركية) ـ إن جاز التعبير ـ فينقلب مزاجي وأسير ليلاً ونهاراً بهدف أو بدون هدف، غير أنني لا اعتبر نفسي مقياساً في هذا المجال، لأن (جيناتي) إما مركبة غلط، أو انه قد أصابها خلل وانفرطت أو تبعثرت، وليس هناك أحد يستطيع لمهّا. وقد حدثني أحد هواة المشي عن مشواره الطويل في هذا الصدد، وكيف انه بدأ أول ما بدأ بعد وفاة زوجته بداء عضال، وخلفت له ابنة في السادسة من عمرها وولدا في الثالثة من عمره، واضطر أن يأتي بشغالة تنتبه لأطفاله ساعات دوامه الرسمي في عمله، ثم تذهب إلى حال سبيلها في آخر النهار.

ويقول: رجعت يوماً إلى منزلي مرهقاً وكان الوقت مساءً، وتمددت على الكنبة طلباً للراحة، وإذا بي اسمع أصوات ضربات مكتومة يصاحبها صخب وضحكات، وذهبت إلى المطبخ لكي استوضح الأمر، وإذا بابنتي وابني يخوضان معركة (بالاسباغتي) ويقذفان بها على بعضهما البعض، وقد التصقت تلك الحبال بالجدران والكراسي وتدلت من الرفوف، بينما صلصة البندورة الحمراء تصبغ وجهيهما وتلطخ ثيابهما. فما كان مني لا شعورياً إلاّ أن امسك بيديهما قائلاً: هيا اخرجا معي لنقوم بنزهة، فقالت البنت أفي هذا الليل يا بابا؟!، وقال الولد: إنني بردان وخائف، غير انني سحبتهما وانطلقنا في الشارع الطويل الهادئ يلفنا الظلام، وبعد مضي نصف ساعة عدنا إلى منزلنا ونحن نغني فرحين. وفي الليلة التالية كررنا نفس النزهة، ودهشت لحماسة ولدي لهذه المشاوير الليلية، وربما طاب لهما رؤية الأشياء واكتشافها في الظلام، وكنا في البداية نقطع في مسيرتنا كيلو ونصف الكيلو تقريباً، ومع السنوات أخذنا نقطع بكل سهولة أكثر من ستة كيلومترات، وكانت أحاديثنا مع بعضنا البعض لا تنقطع، ووثق كل منا بالآخر، ونشأ بيننا ما يشبه الصداقة الحميمة.

ويمضي في حديثه قائلاً لي: والآن كبر الأبناء، فالبنت تزوجت، والولد التحق بالجامعة في مدينة أخرى بعيدة، وأنا تزوجت مرّة ثانية، ولدينا الآن طفل صغير، ومازلت أمشي مع زوجتي في نزهات ليلية، ويمشي معنا طفلنا وإذا تعب من المشي حملته أو حملته أمه.. ولا أنسى في الليلة البارحة عندما تأخرنا قليلاً بالخروج من المنزل، وإذ (بالفصعون) الصغير يشدني من كمي وينطق بجملته الأولى قائلاً: بابا، نمشي؟! ـ أو بمعنى أكثر دقة (نمسي) ـ.

أما أغرب محترف بالمشي فهو صديق لا يحلو له المشي إلاّ في ضحى القايلة وفي رابعة النهار، حيث أن الجو في جدة بأشهر الصيف يشبه (الساونا) إلاّ قليلاً، فإن ذلك الشخص لا يتوقف عن السير في الشوارع كأي معتوه أو مطارد، ويا ليت مسيرته غير المباركة تلك، يا ليتها تتوقف عند ذلك، لكنّا بلعناها.

ولكن أخانا بالله لا يحلو له (الجوغنغ) إلاّ وهو متدثر (بالمشلح) ـ أي العباءة ـ، وعليكم فقط أن تتخيلوا ذلك المنظر (الرومنتيكي) الذي يسطح ويفقع المرارة.

ولله في خلقه شؤون (!)

[email protected]