في الذكرى الستين!

TT

افتتحت إسرائيل عطلة الأسبوع الفائت لسكان بيت لاهيا شمالي غزة باغتيال الطفلة الفلسطينية مريم طلعت معروف (14) عاماً، قرّة عين والدها، طلعت معروف، والذي اعتقلته قوات الاحتلال بعد غياب ابنته، كي لا يتمكن حتى من وداع جثمانها والبكاء والحزن عليها بعد أن فُجع بفقدانها إلى الأبد. كما جرح ثلاثة من أفراد عائلتها جروحاً بليغة بعد أن استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزلهم بشكل مباشر بالذرائع الإسرائيلية المعروفة، والتي تتلخص بإصرار الفلسطينيين على مقاومة احتلال أجنبي بغيض والتمسك بمقاومتهم من أجل تحرير أنفسهم وأرضهم وبلدهم من براثنه. وحين قرأت عن هذه الجريمة النكراء اعتقدت أنّ هذا أقسى ما يمكن أن ترتكبه الآلة الإجرامية الإسرائيلية بحق شعب أعزل. ولكنّ الإسرائيليين يتفوقون دائماً على أنفسهم بارتكاب أعمال الإبادة ضدّ شعب آمن فأتت كلّ جريمة لتجعل سابقتها تبدو أخفّ وطأة من التي تلتها.

فلم ألحق بعد أن أكتب عن مريم طلعت معروف ووالدها، وعلى كل والد مولع بابنته أن يتخيّل ماذا حدث لطلعت معروف حين قتلوا ابنته وساقوه إلى السجن فور استشهادها، إلى أن فجعتُ بجريمة يجب ألا تمرّ مرور خبر عاجل على مسامع ومرأى العالم العربي والدولي. إذ شاهدت الأم العربية ميسر أبو معتق في عزبة في بيت حانون والتي كانت تتناول طعام الإفطار مع أطفالها الأربعة مسعد (عام واحد) وهناء (ثلاثة أعوام) ودينة (أربعة أعوام) وصالح (خمسة أعوام) حين قصفهم جيش الاحتلال بقذيفة إسرائيلية فاختلط الحليب بدماء الأم وأطفالها، والتي أرسلت زوجها للتوّ ليتناول غرضاً آخر لمائدة الإفطار من محل قريب من المنزل فعاد الأب، أحمد أبو معتق، ليجد أسرته قد أبيدت تماماً وليرى زوجته وأطفاله الأربعة أشلاء متناثرة في داره، ولتقلب هذه الساعة السوداء حياته رأساً على عقب، فلا زوجة ولا أطفال، ولا حديث، ولا ابتسامة، ولا دعابة، بعد اليوم، بل الموت الإسرائيلي الأسود بأشكاله المختلفة الذي سيعيشه أحمد أبو معتق كل يوم إلى أن يلحق بأسرته بعد أن دمّر العدوان والاحتلال قلبه وروحه. وقد سقط شهيد آخر يبلغ من العمر سبعة عشر ربيعاً، لأن مروره صودف قرب المنزل لدى سقوط صاروخ الإبادة، كما استشهد معاذ الأخرس (22) عاماً في اليوم ذاته، صباح الاثنين الماضي، برصاص قنّاص إسرائيلي فيما استشهد أيضاً الشاب إبراهيم حجوج (23) عاماً.

كل هذا خلال ثمان وأربعين ساعة في بيت لاهيا وبيت حانون، والسؤال هو إذا لم تكن هذه حرب إبادة ضد المدنيين الفلسطينيين فما عساها أن تكون حرب الإبادة؟ وإذا لم يكن هذا تطبيق حرفي لأسلوب العقوبات الجماعية ضدّ شعب بأسره فكيف يمكن أن تكون العقوبات الجماعيّة؟ والسؤال الآخر هو كيف يمكن أن يتعامل العالم «الديمقراطي» و«المتحضّر» مع تدمير حياة النساء والأطفال والشباب الذين لا ذنب لهم سوى أنّهم ولدوا عرباً على أرض فلسطينيّة محتلّة، بعد أن هُجّروا لأول مرّة عام 1948 وأصبحوا لاجئين في غزة فلاحقتهم آلة الموت الإسرائيلية إلى قراهم ومخيماتهم كي تبيدهم، في الوقت الذي يتشدّق فيه بعض حكامها بالتهدئة أو التفاوض على جثث الأطفال الأبرياء؟ وكالعادة لم يجد الإعلام الغربيّ نفسه معنيّاً بنقل الخبر أو الصورة وكأنّ حياة هؤلاء ليست أثمن شيء وهبه الله لهم، فمن يحمل قضيّتهم ويتابعها، كما حملت عائلة جيمس ميللر قضيّته لسنوات خمس طوال، إلى أن أرغمت إسرائيل على الاعتراف بقتلها المتعمّد له؟ في محاولة لفهم العوامل التي تمكّن إسرائيل من ارتكاب كلّ هذه المجازر البشعة، وهي تستعدّ للاحتفال بـ«عيدها» الستين كدولة «ديمقراطية» سيتحدّث عن «مآثرها» قادة من العالم يستعدّون للمشاركة في هذا الحدث.

لم أجد أقرب من وصف علاء الأسواني في روايته «شيكاغو» لما حدث للهنود الحمر، وتفسيره له والذي ربما يساعد البعض على فهم العوامل التي تمكّن إسرائيل من الاستمرار بارتكاب مجازرها مطمئنّة إلى صمت دولي مطبق، وصمت رسمي عربي مريب غير مفهوم.

يقول علاء الأسواني خلال المئة عام التي تلت عام 1673 حين وصل إلى منطقة شيكاغو رحّالة أبيض يرافقه راهب فرنسي توافد بعدها آلاف المستعمرين على أمريكا، «شن المستعمرون البيض حروب إبادة مروّعة، قتلوا خلالها ما بين 5 و12 مليون من الهنود الحمر في كل أنحاء أمريكا، مع أن المستعمرين البيض الذين قتلوا ملايين الهنود الحمر واستولوا على أراضيهم ونهبوا ثرواتهم من الذهب.. كانوا في نفس الوقت مسيحيين متدينين للغاية» لكنّ هذا التناقض يصبح مفهوما حين نستذكر الآراء التي كانت شائعة في تلك الفترة. فقد ذهب كثير من المستعمرين البيض إلى أنّ «الهنود الحمر، بالرغم من كونهم ضمن مخلوقات الله على نحو ما، فإنهم لم يُخلقوا بروح المسيح، وإنما خُلقوا بروح أخرى ناقصة شريرة» كما أكد آخرون بثقة، أن الهنود الحمر مثل الحيوانات «مخلوقات بلا روح ولا ضمير، وبالتالي فهم لا يحملون القيمة الإنسانية، التي يحملها الرجل الأبيض».

ولقد لجأت «إسرائيل» ومازالت إلى بث نظريات مشابهة عن العرب الذين، كما تزعم، «يرغبون لأطفالهم أن يستشهدوا فيرمون بهم إلى التهلكة كي يذهبوا إلى الجنة!». كما شنّت «إسرائيل» ومنذ سنوات حملة عنصرية في الإعلام العالمي، مفادها أن النساء الفلسطينيات «هنّ اللواتي يدفعن أطفالهن إلى الموت» لأن المسلمين يفضلون الموت على الحياة لأن «الشهادة تكافئهم بحوريات في الجنة»، والذي يراد الغمز منه إلى شبق المسلمين أو غرابه دينهم ومعتقداتهم.

وها هو ايهود باراك بعد جريمة إبادة عائلة أبو معتق في بيت حانون يقول: «إن حماس مسؤولة عن كلّ ما يحدث هناك وكلّ الإصابات، فهي تنشط داخل تجمعات سكنية وحتى أنها تضع عبوات ناسفة بين سكان مدنيين، مسؤولة أيضاً عن قسم من المصابين الفلسطينيين». هذا بالإضافة إلى افتراءات الجيش الإسرائيلي اليومية والتي تتهم كلّ من تغتاله بأنه «كان يحمل حقيبة تحتوي على عبوة ناسفة» أو أنه «كان في طريقة إلى زرع عبوة ناسفة»، أو أنه «في طريقه لتنفيذ عملية ضد الجنود الإسرائيليين».

فإلى متى يردّد العالم والإعلام الدولي والعربي أكاذيب الاحتلال هذه، والتي تقدّم مبررات لحرب الإبادة التي تقودها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين كل يوم؟ إن آلاف الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الأطفال والنساء والشباب والأسر الآمنة، هي جرائم بحق الإنسانية ويحاسب عليها القانون الدولي الإنساني وهي خرق فاضح لاتفاقيات جنيف الرابعة، فلماذا يصمت زعماء العرب ويصمت العالم «المتحضّر» ويَمرّ خبر إبادة العوائل وتدمير حياة آلاف البشر، وكأنه خبر لحظي لا يتذكره أحد بعد لحظة إذاعته، هذا إذا أتيح له أن يُذاع أو يُبث؟ ثمّ إن استهانة إسرائيل بحياة أسرة أبو معتق، كغيرها من آلاف الأسر التي أبيدت والتي دمرت حياتها كأسرة الطفلة غالية وأسرة الطفلة مريم طلعت معروف هي استهانة بحياة العربيّ في كلّ أقطاره وبكرامة هذا العربي وقيمة حياته لأن النظريات العنصرية التي تبثّها إسرائيل عن حياة العرب والمسلمين تشمل الجميع، تماماً كما كانت الشائعات عن حياة وروح ومشاعر الهندي الأحمر تشمل جميع الهنود الحمر إلى أن أبيدوا جميعاً.

لقد أصدر مئة أكاديمي بريطاني يهودي، بياناً يدعون العالم فيه إلى مقاطعة احتفالات الذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل، لأنها تقوم بأعمال إبادة وتطهير عرقي ضد الفلسطينيين، فأين اختفت أصوات المثقفين والأكاديميين والمحامين العرب والمجتمعات الأهلية على طول الوطن العربي وعرضه؟

www.bouthainashaaban.com