الصين بين الحرية والتاريخ

TT

جذبت الفوضى التي صحبت رحلة الشعلة الأولمبية، الانتباه إلى واقع حقوق الإنسان في الصين. ما هو السبب وراء انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في الوقت الحالي هناك؟ البعض يرى أن المشكلة في الحكم الديكتاتوري الشيوعي في الصين، وأنّ السبب في هذه الانتهاكات هو الدولة الصينية المركزية القوية، التي تتجاهل حقوق مواطنيها. وقد يكون هذا صحيحا فيما يتعلق بقضية التبت وعملية قمع حركة غونغ الدينية. ولكن المشكلة الأكبر في الصين اليوم، ترجع إلى أن الدولة الصينية المركزية، بشكل من الأشكال، أضعف من أن تدافع عن حقوق مواطنيها. تحدث الغالبية العظمى من انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها المواطنون الصينيون، منهم الفلاحون الذين سُلبت منهم أراضيهم من دون مقابل عادل، والعمال الذين أجبروا على العمل في ظروف مهينة وبلا مقابل مناسب، وسكان بعض القرى الذين يتسممون بسبب دفن المواد الملوثة، في مستوى أقل من مستوى حكومة بكين. فالنهج الغريب الذي اتبعته الصين من أجل تحقيق الحداثة بعد عام 1978 تم دعمه من قبل ما عرف باسم «مشروعات القرية والمدينة»، والتي تتيح للأجهزة الحكومية المحلية إقامة مشروعات تجارية والدخول في السوق التجارية العالمية. وتمكن هذا النظام من تحقيق نجاح كبير وحقق الكثيرون الثراء الفاحش، حيث يمكنهم بالتنسيق مع بعض الشركات الخاصة خلق ظروف تشبه كثيرا ظروف إنجلترا الصناعية. ويقول البعض إن الحكومة المركزية تريد أن تضبط هذه الهيئات الحكومية المحلية، ولكنها عاجزة عن ذلك، إذ تعوزها القدرة. كما أنها تعتمد على الحكومات المحلية والقطاع الخاص في خلق وظائف جديدة وتحقيق العوائد.

لا يثق الأميركيون بطبيعتهم في أي حكومة مركزية قوية، ويؤيدون بدلا منها نظاما فيدراليا يقوم على توزيع السلطات بين الدولة والحكومات المحلية. ولمنطق التقريب بين الحكومة والشعب معقوليته، ولكننا غالبا ما ننسى أن الحكم الاستبدادي، يمكن فرضه عن طريق مجموعات محلية مثلما يمكن فرضه عن طريق المجموعات المركزية المستبدة. وفي بريطانيا العظمى، لم يكن الأمر متعلقا بقدرة السلطات المحلية على تهديد الحكومة المركزية، ولكن كان الأمر مرتبطا بتوازن قوة بين السلطات المحلية والحكومة المركزية القوية، وهذا في الواقع هو أساس الحرية. وقد أشار القانوني البارز السير هنري سومنر مين، الذي عاش في القرن التاسع عشر إلى هذه الحقيقة في كتابه «شرائع وأعراف قديمة» Early Law and Custom، في مقالة كان عنوانها «فرنسا وإنجلترا». ويوضح السير هنري أن المشكلة الأبرز والأكثر شيوعا منذ الثورة الفرنسية تتمثل في شكوى الفلاحين من تعدّي الإقطاعيين على ممتلكاتهم. ويرى هنري أن السلطة القضائية في فرنسا أصبحت سلطة لامركزية، وسيطرت عليها حكومة النبلاء المحلية.

وفي المقابل نجد أنه منذ غزو النورمان نجحت الملكية الإنجليزية في إقامة نظام قضائي مركزي قوي. ووفرت محاكم الملك الحماية للمجموعات الضعيفة من تعديات الأرستقراطيين. وكان فشل الملكية الفرنسية في فرض قيود مماثلة على النخب المحلية، هو السبب وراء توجه الفلاحين الذين هاجموا بيوت النبلاء خلال الثورة الفرنسية مباشرة إلى الممتلكات، حيث يرون أنها سرقت منهم على مدى عدة أجيال. ويضر ضعف الدولة بقضية الحريات المدنية، فقد عجزت النظم الأرستقراطية في بولندا والمجر عن فرض مواثيق شبيهة بـ«ماغنا كارتا» في بلادهم. ولذا ظلت الحكومات المركزية في هذه الدول (عكس نظيرتها الإنجليزية) على مدى عدة أجيال متعاقبة أضعف من أن تحمي الفلاحين من ملاك الأراضي، وبالطبع عجزت عن حماية بلادها من الغزو الخارجي.

والأمر نفسه في الولايات المتحدة، فقد كانت «سلطات الولايات والنظام الفيدرالي»، الشعار الذي رفعته النخب في الجنوب وهي تضطهد الأفارقة الأميركيين، سواء كان هذا قبل أم بعد الحرب الأهلية. والحرية الأميركية ثمرة حكومة لامركزية متوازنة في ظل دولة مركزية قوية، قادرة، إذا كانت هناك، ضرورة على إرسال الحرس القومي إلى مدينة ليتل روك في ولاية أركنسو لحماية حقوق الأطفال السود في الدارسة بالمدارس. ومن الصعب الآن معرفة ما إذا كانت الحرية في صين القرن الحادي والعشرين، ستظهر ومتى يكون ذلك؟ وقد تكون هي أول دولة يكون الدافع فيها وراء إقامة حكومة مسؤولة، هو الخوف من تسميم البيئة. ولكن هذا سيحدث عندما يكون المطلب الشعبي بمحاسبة الحكومة المحلية، مدعوما بحكومة قوية تستطيع أن إجبار النخب المحلية على اتباع قواعد هذه الدولة.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفز»