هل يهدي انقسام الديمقراطيين البيت الأبيض لماكين؟

TT

«الحزب الديمقراطي أشبه ما يكون بالبغل، إذ لا أصل له يعتز به أو مستقبل يعقد عليه الآمال»

(السياسي الجمهوري القديم إغناتيوس دونيلي)

جون ماكين شخصية متميزة، قد يقول لك بعض الجمهوريين الأميركيين، لكنه ظل طويلاً طائراً يغرّد خارج سربه. وفي حزب «ضبط وربط» كالحزب الجمهوري اعتاد قادته الكبار احتواء تشققاته قبل تفاقمها... هذه تهمة خطرة حقاً.

وباراك أوباما وهيلاري كلينتون، كذلك، من الشخصيات المتميّزة ليس في هرم القيادة السياسية للحزب الديمقراطي فحسب بل على المستوى المهني أيضاً. غير أنهما يمارسان السياسة في حزب مصدر قوته ونقطة ضعفه في آن انه تنظيم فضفاض، يجمع المشارب المختلفة من دون التمكن من صهرها مصلحياً لفترة طويلة. بل غدت من عاداته السيئة رغم التطوّر البنيوي في مرتكزاته السياسية «الانتحار المجاني»، حتى عندما تكون الظروف مؤاتية لتحقيق الفوز. لذا قيل فيه أنه أقدر الأحزاب على انتزاع الهزيمة من أنياب النصر!

اليوم يعدّ ماكين العدة لبناء «هيئة أركانه» سواء في الحملة الانتخابية التي حسمها لمصلحته باكراً في المعسكر الجمهوري، أو في البيت الأبيض الذي قد يدخله بالرغم من كل أخطاء الإدارة الجمهورية والتدني الاستثنائي لشعبية جورج بوش «الإبن». لماذا؟ لأن ثمة انقساماً حاداً في صفوف الديمقراطيين بين مرشحين قويين تشير آخر استطلاعات الرأي الى أن الفارق الفاصل بينهما في نسبة التأييد أدنى من هامش الخطأ الإحصائي.

نظرياً، إن انقساماً بهذا المستوى بين مرشحين طموحين جداً يرفض كل منهما التنازل للآخر كافٍ لشق الحزب وتشتيت قواه... لأنه ينوي دخول التاريخ من بابه الواسع بعد كسر احتكار الرئاسة الذكورية البيضاء. غير أن ما هو أسوأ هو المشهد العام على الصعيد الديموغرافي في المعاقل التقليدية للديمقراطيين، وفي الولايات المحورية التي عليهم التحرك لكسبها. فهنا المسألة تخرج عن مجرد حساب الأرقام لتمسّ تكوين القواعد التي جيّرت وتجيّر ولاءها لهذا المرشح أو ذاك.

بما يخص الأرقام، وقبل الإعلان الرسمي لنتيجة تصويت جزيرة غوام (وهي من التوابع الأميركية التي لا ترقى إلى مستوى ولاية، حيث كان أوباما متقدماً منذ فترة) كان رصيد أوباما من أصوات المندوبين 1734 مقابل 1597 لكلينتون. وهذا الفارق ليس كبيراً جداً بوجود ولايات قادرة على قلب الصورة، بينها نورث كارولينا وإنديانا اللتان تصوتان غداً الثلاثاء. أضف إلى ذلك أن مصير أصوات ولايتي فلوريدا وميشيغن الكبيرتين ما زال غير محسوم.

لكن الأمر الخطير حقاً هو أن أوباما يكسب بانتظام نسبة عالية جداً من أصوات الناخبين السود دفعت بعض المعلّقين، من دون أن يكونوا بالضرورة عنصريين، إلى التحدث عن «صوت أسود» كان له دور الحسم في عدد من الولايات الكبرى. وهو حتماً يلعب دوراً مؤثراً في الولايات ذات الكثافة السوداء في الجنوب و«حزام الصدأ» الصناعي الشمالي. وفي المقابل تكسب كلينتون أغلبية ملحوظة في ولاية الشمال الشرقي والأصوات «المتحفظة» التي ترى أن أميركا ربما ما زالت غير مستعدة لانتخاب رئيس أسود، وأيضاً أصوات نسبة لا بأس بها من النقابيين العماليين.

إذاً، مَن سينتهي به الأمر إلى الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، قبل المؤتمر الحزبي العام أو خلاله، سيجد نفسه فاقداً ـ على الأقل ـ حسن نية قطاع واسع من جمهور الحزب.

وإذا ما تذكّرنا أن هيلاري كلينتون فازت بمعظم الولايات الكبرى التي صوّتت في السنوات الأخيرة للمرشحين الرئاسيين الديمقراطيين (على رأسها كاليفورنيا ونيويورك وبنسلفانيا)، ولا بد للديمقراطيين من الفوز بها في الخريف المقبل، نجد أن أوباما لم يكن الخيار الأول لناخبيها. وبالتالي، لا ضمانة بأن أوباما إذا ما ربح الترشيح سيثير فيهم الحماسة للإقبال على التصويت ضد مرشح جمهوري معتدل اجتماعياً كجون ماكين... لا يُعد بصورة من الصور وريثاً لغلاة اليمين الذين حكموا البلاد في عهد بوش «الابن».

وفي المقابل، إذا سلمنا جدلاً بأن الديمقراطيين مضطرون لتجييش كل إمكانياتهم، وبالذات أصوات الأقليات غير البيضاء للفوز بالولايات المحورية المتأرجحة، نجد أن أغلبية الولايات التي سيشكل النجاح في تجييش الناخب الأسود فرصة حقيقية لكسبها في المعركة الرئاسية صوتت لأوباما. وعليه، إذا تبنى الديمقراطيون ترشيح كلينتون سيترسّخ أكثر في أذهان قطاع واسع من الراديكاليين السود أن كل الناخبين البيض «سواسية»... ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين... في تهميش المرشحين السود، وهكذا لن ينشطوا لمصلحة كلينتون في يوم الحسم بنوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

أمر آخر يدخل في حسابات الناخبين الحزبيين هو أي من المرشحَين أقدر على إلحاق الهزيمة بمرشح الحزب الخصم. وفي حالة كلينتون وأوباما كان معسكر كل منهما، طبعاً، يركز على أن مرشحه أقدر على التغلب على ماكين في حين أن المرشح الآخر يمكن أن يخسر. والمشكلة الأخيرة التي أثارتها قضية تصريحات القس جيريمياه وايت كانت حسب بعض المحللين وراء تراجع شعبية أوباما، بينما يرى محللون آخرون أنها في حد ذاتها لم تكن السبب المباشر للتراجع، بل سبباً غير مباشر جوهره أنها خلّفت عند مؤيديه اقتناعاً متزايداً بأنها أضعفت فرصه أمام ماكين.

في مطلق الأحوال، السباق محموم والانقسام الديمقراطي حقيقة واقعة.

أما الجمهوريون الذين يقرّون بأنهم يدافعون عن تركة غير محبّبة بعد ثماني سنوات صعبة... فأمامهم مرشح يجوز في آن معاً اعتباره مرشح توحيد أجنحة الحزب، و«مرشح الاعتراض» على سياسات معينة من دون المساس بالثوابت.

فهل يدرك الديمقراطيون مكامن خطورة ماكين عليهم قبل فوات الأوان؟ أم أن انقسامهم سيخلي أمامه الطريق إلى البيت الأبيض؟