هولوكوست المقاومة

TT

المثير في السجال الدائر بين وليد جنبلاط وحزب الله، حول شبكة تليفونات الحزب، وقبضه على أمن المطار، المثير هو: أين الدولة اللبنانية من هذا كله؟

زعيم المختارة اللاذع، كشف للجميع هيمنة الحزب الالهي على صلاحيات وممارسات لا يصلح أن تمارسه ـ في الكرة الأرضية كلها ـ إلا أجهزة الدولة، كإنشاء الحزب شبكة اتصالات، من تلقاء نفسه، أو إدارة امن مطار دولي.

توقعت أن يرد الحزب بتكذيب هذه المعلومات، ولو من باب «الحرب خدعة!» لكنه لم يفعل ذلك، بل أصدر بيانا هاجم فيه جنبلاط (شيء طبيعي)، ولكنه حين وصل إلى مسألة وجود شبكة اتصالات خاصة به، لم يزد على أن قال إن جنبلاط يقدم: «إخباراً للعدو الإسرائيلي». ما يعني إقرارا بوجود هذه الشبكة، التي بحديث جنبلاط عنها علنا فإنه قدم معلومات وخدمات للعدو الإسرائيلي.

وأما أمن مطار بيروت الذي كان الحديث يدور حول طبيعة علاقة مديره العميد وفيق شقير بحزب الله منذ فترة وليس اليوم، فكان تعليق قيادات الحزب أو نبيه بري أكثر شراسة، فحسب جريدة الأخبار اللبنانية ـ المنحازة للحزب ـ في عدد أمس اعتبر التعرّض لشبكة الاتصالات الخاصة بالحزب، أو المس بمنصب رئيس أمن المطار: «بمثابة تعرُّض لسلاح المقاومة».

بصرف النظر عن طبيعة التراشقات الإعلامية او العراك السياسي اليومي بين ساسة لبنان، فإن صورة «دولة حزب الله» صورة لا تخطئها العين بتاتا.

وحتى نعيد بناء المشهد الغريب، نذكر بأن التهمة التي وجهت للحزب هي إنشاء شبكة اتصالات خاصة تابعة له بدعم من إيران، تغطي معظم مساحات لبنان، وأمن المطار بكل تفاصيله الأمنية هو رهن إشارة عسكري خاضع للحزب، «يطنش» عن أي شيء يخص الحزب المقاوم المحتاج للمال النظيف والسلاح الأنظف...

الحزب «الإلهي» ومعه الظهير «البشري» السيد نبيه بري، ينقلان النقاش إلى مستوى مغاير، من باب تشتيت النظر، فأي حديث عن شذوذ حزب الله عن الدولة وبنائه لدولته الخاصة باتصالاتها ومطارها وصواريخها وجيشها وتجسسها وخدماتها... وكل شيء يميز الدولة، أي حديث عن هذه الحالة العجيبة من «الحمل خارج الرحم» هو حديث خائن ينطلق من تعليمات أمريكية وصهيونية الغرض محاربة المقاومة التي حققت النصر الإلهي، وتتولى الآن حماية هذا النصر من خلال القبض على الدولة، واغتصاب صلاحياتها، وأي اعتراض أو انتصار للدولة ضد الدويلة، يقصف بأنه حديث خيانة وانبطاح وتبعية للعدو.

البعض يرى في ذلك مصدرا للإعجاب بقدرات الحزب الإلهي الذي يملك ماكينة عسكرية ومخابراتية، وإعلامية، وخدماتية... والآن شبكة تلفون، والحق أن ذلك بقدر ما هو مثير للإعجاب بشطارة وعمل حزب الله، بقدر ما هو مثير للرثاء على مدى هلامية الدولة وانتكاسة التعاقد السياسي اللبناني أو فكرة «الصيغة» اللبنانية. وجدير بمن يتباهى بصواريخ حزب الله أو التهامه للدولة اللبنانية أن يقلق من مستقبل وتداعيات هذا الاغتصاب للدولة على رغم انف «نصف» اللبنانيين ـ على الأقل ـ ممن لا يهتفون لحزب الله ولا يرون فيه إلا مصدرا للقلق والريبة الداخلية.

طبيعة الخطاب الإعلامي للحزب الإلهي، وتوابعه اللبنانية، ومن يهلل لهم خارج لبنان، هي طبيعة وثوقية، متعالية بالهالة النورانية التي يرون أنها تحيط عملهم السياسي الذي هبطوا عليه من السماء، من باب الضرورة أو من باب حماية المقاومة فقط، كما قال حسن نصر الله في مقابلته الثنائية مع «المتفاهم» ميشيل عون، وهو ما يعني أن السياسة اللبنانية والخوض فيها، بكل ما يعني ذلك من تنازلات وتفاهمات وتعديلات من اجل مصلحة الدولة والمجتمع اللبناني، كل ذلك ليس أصلا ولا أساسا في سياسة حزب الله، ولا في خيال لاعبيه السياسيين في البرلمان، الهدف الذي من أجله «اضطر» الحزب للخوض في إثم السياسة اللبنانية ليس إلا حماية المقاومة، وما تقوم عليه هذه المقاومة من أساس فكري وخطاب عقدي، فالمقاومة كل لا يتجزأ، مكون من عقيدة وسلوك ينتج عملا مقاوما يتجلى في أبرز صوره بالفعل العسكري، وكل العمل السياسي والإعلامي والمناورات اللفظية، ليست إلا للتخديم على هذه الغاية العظمى التي تتقاصر دونها كل الغايات، وكل أمر بخلاف «عقيدة» المقاومة، وليس الجزء العسكري منها فقط، فهو لاشيء، كل حديث أو رؤية تنفي او تضعف عقيدة المقاومة، فهي ملغاة وملوثة.

ليس هذا الكلام تقولا على الحزب الإلهي، بل هو حقيقة حاله، وهو ما يقوله رموزه وقادته، إما بلسان الحال أو بلسان المقال، كما هي دلالة كلام أمينه العام في مقابلة تلفزيون عون معه قبل فترة حين حديثه عن سبب دخول الحزب للعمل النيابي.

المقاومة شعار براق، وحراق، لكل من يتجرأ على مجادلته أو مناقشته، ناهيك من الاعتراض عليه، لأنه سيتحول فورا إلى محرقة الخيانة في إعلام الحزب وتوابع الحزب، والإعلام السوري والإيراني وتوابعهما، الأمر الذي جعل البعض يخشى من مغبة الاختلاف مع الحزب، ومثله حماس، حتى لا يتعرض للقصف الإعلامي من قبل الإلهيين، في حالة تشبه حالة تحريم الحديث بشكل مختلف عن الهولوكوست اليهودي... ويا للمفارقة!

المقاومة الآن تصوب على إسرائيل، التي هي عدو خالد ومزمن بإجماع عربي إسلامي، أتكلم هنا عن مشاعر الشارع، وهو المهم في الدعاية، لكن تحت هذا العنوان «المقدس»، يندرج كل من يقف ضد هذه المهمة السماوية النقية، فكل من يختلف مع طرف من دول ودويلات المقاومة، سوريا ويران، وحزب الله وحماس، فهو عدو ليس لهم، بل للشرف والنقاء والهوية، لأنه يختلف مع ممثلي هذه القيم، وهنا يصبح القلق حقيقيا من المزج بين المقدس والمدنس.

إسرائيل التي ستمر ذكرى تأسيسها الستون، الأسبوع المقبل، حيث أعلنت 14 مايو 1948، شكلت وما زالت عقدة لنا، فباسم محاربتها سقطت أنظمة وتمت انقلابات، ونشأت جماعات، وتغير مجرى التاريخ العربي والإسلامي، بل العالمي، بسبب وجودها، وعملية السلام والتفاوض بينها وبين جيرانها العرب هي الأطول الآن، بعد محطات حرب وصراع كان العرب هم الخاسر الأكبر فيها. وبعد لغة إلقاء اليهود بالبحر، وشذاذ الآفاق، وبعد تخوين وقتل من ارتضى التفاوض والاعتراف بإسرائيل من باب الأمر الواقع، بعد هذا كله، عاد الرافضون وأقروا بالواقعية، ورفع ياسر عرفات غصن الزيتون ودار الزمن حتى صافح ابو عمار رابين في البيت الأبيض وعاد من تونس إلى غزة، ووقعت الأردن اتفاقية سلام وقبلها مصر، وتهاوى التابو الإسرائيلي، ورأينا تسيبي ليفني تحضر علنا للدوحة، وموريتانيا تعترف باسرائيل، ثم كان الاختراق الأكبر بمبادرة السلام العربية التي طرحت في قمة دمشق وتبناها العرب قاطبة، وهي مبادرة كما قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أتت ومنطقة الشرق الأوسط تعيش في مستنقع من الكآبة، بسبب هذه الحال، الفيصل، لم ينس الاشارة الى تغاضي العالم عن اعتداءات اسرائيل على الفلسطينيين بسبب التعاطف مع اسرائيل بعد محرقة الهولوكست، التي لا ذنب للعرب فيها، لكنه لم يقف عند التاريخ البعيد وصوب نظره نحو المستقبل، وأبان في اجتماع الرباعية الدولية بلندن قبل أيام أن «الدول العربية بذلت كل ما في وسعها لتشجيع عملية التسوية وتبنت المبادرة العربية للسلام في بيروت»، مذكراً بأن هذه المبادرة تتضمن «منح إسرائيل الأمن الكامل الذي تطلبه من خلال التطبيع القائم على معاهدة سلام توقع عليها اسرائيل وكافة الدول العربية بالإضافة الى الدول الإسلامية». لكن يبقى الدور على إسرائيل والدولة الراعية أمريكا.

السلام والتفاوض هو خيار استراتيجي بالنسبة للعرب، أعني هنا الدول العربية، لكن ما يفعله حزب الله او حماس هو شيء آخر، مع أن حجم الصدق في تطابق ظاهر الشعارات مع باطن الممارسات يبقى محل سؤال! خصوصا ونحن نرى سوريا تحث الخطى للتفاوض مع أولمرت، سوريا التي شكرها وحياها حسن نصر الله، معتبرا إياها دولة الصمود والنقاء، ها هي الأخبار تتواتر عن جريان الرسائل والمراسيل بين دمشق وتل أبيب، ولم يحدثنا السيد عن هذه المفاوضات: أليست خيانة وطعنا للمقاومة؟

وبعد: المقاومة حينما تكون مرتبطة بجملة من الرؤى الخلاصية والتصور الانقلابي على المجتمع والدولة.. تصبح مقاومة للحياة، لا من اجلها.

ليس منصفا ولا مفيدا أن نجدع أنوفنا بسكين المقاومة.