أزمة الحريات.. لا أزمة الصحافة العربية

TT

حين قال مدير جريدة «الوطن الآن» التي تصدر في الدار البيضاء إن اليوم العالمي لحرية الصحافة هذه السنة يعتبر الأسوأ بالنسبة للإعلام العربي فإنه كان يعبر عن حالة تتجاوز حدود المملكة المغربية لتشمل أقطاراً عربية عدة تعاني الصحافة فيها من مختلف أشكال القمع. لقد كان مدير الجريدة عبد الرحيم إريري يتحدث عن قضية الصحفي مصطفى حرمة الله المضرب عن الطعام الآن، الذي تم اعتقاله بسبب نشره وثيقة صادرة عن الجيش المغربي تتعلق بالاحتياطات اللازمة لمواجهة خطر إرهابي محتمل «كما ذكرت «الشرق الأوسط» في 4/5 الحالي» وكانت تلك هي الجريمة التي بسببها تم توقيف الصحفي المغربي، الأمر الذي يكشف الأسلوب القمعي الذي تتعامل به السلطة مع الصحفيين في إطار عملية التضييق عليهم في ممارستهم لمهنتهم الذي ندد به رئيس نقابة الصحفيين المغاربة يونس مجاهد.

وفي الوقت الذي يحدث فيه ذلك بالمغرب تناقلت الأنباء في تونس أخبار إضراب عدد من العاملين بصحيفة «الموقف» عن الطعام، احتجاجاً على مسلك السلطة التعسفي إزاء مجلتهم، ومحاولة إجبارها على التوقف عن الصدور. وكانت المجلة قد نشرت افتتاحية طالبت فيها الحكومة بتحليل الزيوت النباتية الموزعة في الأسواق، بعد ما اكتشفت المختبرات الجزائرية أن الزيوت المستوردة من تونس تحتوي على نسبة عالية من الرصاص تضر بصحة المستهلك. وكما رأيت فإن الرأي الذي عبرت عنه المجلة في هذا العدد لا يمس أمن الدولة ولم يذكر صنفاً معيناً من الزيوت، وإنما كل الجريمة التي ارتكبتها الصحيفة أنها طالبت بالمحاسبة إذا ثبت أن الزيوت مضرة بالصحة.

بسبب هذا الكلام منع توزيع الصحيفة ورفعت خمس شركات مصنعة للزيوت دعوى وكلت فيها محامياً واحداً طالبت المجلة بتعويض قيمته 450 ألف دولار عن الخسائر التي لحقت بها من نشر الافتتاحية التي لم تصل إلى القارئ العادي. وبدا واضحاً من ملابسات القضية أنها مفتعلة وملفقة ليس فقط لأن المجلة منع توزيعها، وإنما أيضاً لأن افتتاحيتها لم تذكر شركة بذاتها فضلاً عن أنها لم تتهم أحداً وإنما طالبت فقط بالتحقيق في الموضوع.

هذه الملاحظة لم تكن الأولى من نوعها لأن السلطات التونسية سبق أن أوعزت إلى مالك العقار الذي تستأجره «الموقف» لرفع دعوى لإخراجها من مقرها في شهر سبتمبر الماضي ولما احتج المسؤولان عن الصحيفة على ذلك وأضربا عن الطعام لمدة 40 يوما، تراجعت الحكومة وأرسلت إلى المالك لتسوية الموقع مع الصحيفة، وفي الوقت ذاته فإن ضغوطاً أخرى مورست لمنع الشركة التونسية للصحافة من توزيع الصحيفة المتداول في الأوساط الصحفية التونسية أن الدعوى المرفوعة على مدير تحرير «الموقف» المحامي أحمد نجيب الشابي ورئيس تحريرها الزميل رشيد خشانة (المحكمة تنتظر القضية في 10 مايو الحالي) استهدفت أمرين أولهما تأديب الصحيفة ومعاقبتها مالياً، وثانيهما إنذار وتخويف الصحف المستقلة الأخرى التي سارت على دربها مثل صحيفتي «مواطنون» و «الطريق الجديد». لقد تضامنت نقابة الصحفيين التونسيين مع هيئة تحرير الموقف، وفي الوقت ذاته أصدرت بياناً في يوم الصحافة العالمي انتقد فيه التضييق على العاملين بالمهنة، كما انتقدت قانون الصحافة التونسي الذي أورد لفظ يعاقب 30 مرة ولفظ السجن 17 مرة ولفظ مخالف 15 مرة في حين لم يرد في القانون ذكر كلمة صحفي سوى مرتين اثنتين فقط.

الوضع لا يختلف كثيراً في ليبيا الذي تم فيها تحويل الكاتب محمد طرنيش إلى نيابة الصحافة بتهمة «تضليل الجماهير وإثارة الرأي العام» من خلال مقالاته التي تنشرها صحيفة «مال وأعمال».

وهي انتقادات تحدث عنها في مرات عدة الرئيس القذافي وابنه سيف الإسلام ولكن حين تطرق إليها محمد طرنيش لإطلاع الشعب الليبي على ما يجري في البلاد فإن كلامه اعتبر تقليلاً للجماهير وإثارة للرأي العام. واستحق أن يستدعى إلى نيابة الصحافة لكي يعاقب ويكون عبرة لغيره.

في اليمن يحاكم الآن رئيس تحرير صحيفة الشورى عبد الكريم الحيواني بتهمة تشكيل خلية تخريبية في البلد، وقد أدخل الرجل السجن ثلاث مرات وتم الاستيلاء على الصحيفة ومصادرة مقرها ومكاتبها لأنه فتح ملف توريث السلطة. كما تجرى محاكمة صحفي آخر هو محمد المقالح لأنه حضر إحدى جلسات محاكمة الحيواني والثاني ضمن عشرات الصحفيين اليمنيين الذين تعرضوا للاتهام والقمع خلال العام الأخير.

ومن المصادفات الكاشفة أنه في مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة كانت إحدى محاكم القاهرة تنظر استئنافاً لحكم صدر ضد أربعة من رؤساء تحرير الصحف المستقلة بحبس كل واحد منهم مدة سنة وتغريمه 20 ألف جنيه بتهم مختلفة، تتمحور حول إشاعة البلبلة وإثارة الرأي العام من خلال نشر مقالات وأخبار أغضبت السلطة وأجهزتها الأمنية. ورغم أن القضية أجلت إلى منتصف الشهر القادم إلا أن حكم الحبس موجود ويظل سيفاً مسلطاً على رقابهم، كما أنه يبعث برسالة تهديد وإنذار إلى الجميع تدعوهم إلى الاتعاظ والاعتبار.

وفي الوقت الذي قدم فيه رؤساء التحرير الأربعة ومعهم بعض الصحفيين إلى المحاكمة، شهد العامان الأخيران بوجه أخص تطوراً مثيراً في علاقة الأجهزة الأمنية والصحف التابعة للحكومة القومية، إذ عهدت الأجهزة إلى اختراق الصحف وتجنيد بعض محرريها للترويج للدعاوى المراد تعميمها على الرأي العام. بالتالي فإن السلطة لم تعد تواجه معارضيها بالإجراءات القمعية فحسب، وإنما من خلال أبواقها الإعلامية أيضاً وبعدما انفتح المجال لإصدار صحف مستقلة في مصر، فإن الأجهزة الأمنية وسعت من نطاق اختراقاتها حتى ضمت بعض تلك الصحف إلى أبواقها، آية ذلك أنه في يوم 4/5 الحالي نشرت صحيفة «الدستور» اليومية مقالة لفتاة «الفيس بوك» إسراء عبد الفتاح التي ألقي القبض عليها بتهمة التحريض على إضراب 6 أبريل ثم أطلق سراحها بعد ذلك. وإذ روت إسراء تجربتها في السجن، فإنها تحدثت عما جرى لها مع أحد الصحف «المستقلة» بعد إطلاق سراحها، وذكرت أن الصحيفة نقلت على لسانها أنها أعلنت «توبتها» عما اقترفته، في حين أنها لم تنطق بهذه الكلمة على الإطلاق ولكن الصحيفة وضعتها على لسانها لتوصيل رسالة إلى أقرانها تدعوهم بصورة غير مباشرة إلى الاقتداء بها، والكف عن انتقاد الحكومة في المدونات. وذكرت إسراء أنها اتصلت عدة مرات برئيس تحرير الجريدة لتكذيب ما نسب إليها، لكنه لم يفعل لأن القرار أكبر منه على حد تعبيرها.

ليست هذه كل الصورة بطبيعة الحال ولكنها نماذج مما عرف من ملامح الحالة الإعلامية في العالم العربي التي يشهد هامش الحريات فيه تراجعاً مستمراً. وما يقال بحق الصحف يسري على المنابر الإعلامية الأخرى خصوصاً التليفزيون الذي أصبح الأقوى تأثيراً على تشكيل الرأي العام. وكانت «وثيقة تنظيم البث الفضائي» التي أصدرها وزراء الإعلام العرب لفرض الوصاية على مختلف الفضائيات تعبيراً كاشفاً عن الضيق بالاستقلال النسبي للفضائيات وإفساحها المجال للرأي الآخر المطلوب حجبه ومصادرته في أغلب الدول العربية.

المشهد لا يوحي بالتفاؤل برغم أن «المدونات» التي مازالت خارجة عن السيطرة مازالت تتيح متنفساً للراغبين في التعبير عن الرأي الحر، ذلك أن مختلف القراءات تدل على أن هامش الحريات الصحفية يتراجع في أغلب الدول العربية، ويخطئ من يظن أن الأمر مقصور على الحريات الصحفية وحدها، لأن الصحافة مرآة للواقع وهي لا تسترد حريتها وعافيتها إلا في مجتمعات ديمقراطية وحرة. بالتالي فما نحن بصدده هو أزمة ديمقراطية وحرية في العالم العربي بأكثر منه أزمة صحافة أو صحافيين.