البَصْرة.. عندما تُسقط جدار خوفها!

TT

أنباء البَصْرةَ الأخيرة تسر أهلها، والمأخوذين بمنزلتها التاريخية، وموقعها الجغرافي، نهايات البحار والأنهار، وما يعني هذا من تلاقٍ حضاري. وإذا صدقت النوايا، ستبقى، مثلما طوت القرون، عصيةً على الأَخربة، وسيعاد بعد أن كادت تنقض «غَزَلها» سعفها يفرش ظلاله. ويطرب المغنون جرفي شطها، من دون تهديد بقطع الحناجر. ولا تصادر فِرقها الشعبية، ذات الإرث الفني، بالمناحات. ولا يخفي الأُصلاء من أهلها أسماءهم خشيةً بطش وترحيل. ويسير أهل العلم والأطباء في مناكبها، لا يؤخذون بتهمة إنزال صورة، أو التأخر عن موكب حسيني. وبالجملة، من عادة الخوف حجب الفنون والطاقات.

تجد تلك الحالة مواءمتها بين ما يحدث للبَصْرة حاضراً بحوادث ماضيات، أطولها وأشرسها حركة زُنجها (255-270)، التي سجل الطبري (ت 310هـ) يومياتها في تاريخه، ومسكويه (ت 421هـ) في تجاربه، ثم ابن الأثير (ت 630هـ) في كامله، وكانوا متقاربين الخبر والرأي. وأشك أن يكون الثلاثة من مؤرخي المنتصرين، لاعتبارات لا مجال للتبسط بها. إلا أن للمعاصرين انتقاءً آخر، على أنها واحدة من أصالات تراث الجماهير الثوري! هكذا كتب حولها المؤرخ البصري القدير فيصل السامر(ت 1982) في «ثورة الزنج» (1954)، والأديب اللبناني أحمد علبي في «ثورة الزنج وقائدها...» (1961)، والكتابان ينتميان إلى زمن سادت به ثورات اليسار، حتى عمت الأرض. وليس ليَّ اعتراض على ما ذهبا إليه، لكن، ماذا كسب ثوار الأمس ومجاهدو وانتحاريو اليوم، من رفع للسلاح، سوى الشهادة من أجل فخامة القادة؟!

وهكذا اُختلف حول حوادث البَصْرة الأخيرة: رواية مفزوعٍ من أزلام يرتدون السواد، يقطعون الطرقات، ويمارسون البيات، وهذا ليس له سوى التضامن مع ردعهم، وإن كان بمداهمات عبر طائرات ودبابات. وآخر يراها ثورة عاطلين، وما أخطر تداخل العطالة بالجهل، فتعصبوا عصابات، والجار الجنب لا يعف من العون بآلات الموت، فعدوا ثواراً محررين. لكن، مع كل ما يُقال عن حملة الحكومة ضد تلك المجاميع، وما قيل بالأمس ضد رماح الزُنج المشرعة، فجدار الخوف قد سقط! فأخذ البَصْريون كلا يمارس حقه في الصلاة، بلا وصاية مذهبية، وبدأت ساحات المدينة تُكسى بألوان ومشاهد تبعث الحياة، ليست على مقاس حزب أو منظمة، بعد رفع مصلى الجماعات من وسط المدينة، كإشارة أنها الآمر الناهي في مصائر الدين والدنيا. ولعل البَصْرة، إذا حُرص على هدِّ خوفها، ستكون المكان الذي منه ترد الدولة هيبتها، عندما أمرت المتنفذين من إخلاء أملاكها، وحصر السلاح بيدها. فلا قيمة لدولة منهوبة مرعوبة.

بعد فشل صاحب الزنج، علي بن محمد (قُتل 270هـ)، بآصرة علوية، بالبحرين والأحساء! أتى البَصْرة قائلا لزُنجها: «أظلتني سحابة فبرقت ورعدت، وأتصل صوت الرعد منها بمسمعي، فخُوطبت فيه، فقيل أقصد البَصْرة» (تاريخ الأمم والملوك)! وكتب على رايته، ما كتبه الخوارج من قبل، وتنادوا به: «إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة». فاجتمع تحت ظلها الزنوج، وهم لا مال لهم، على أمل تعويضهم عما يكسحون من السباخ. ولم تتبدل لغة الكرامات والمنامات، فذاك ظلته سحابة وهؤلاء أسس الأئمة جيوشهم. عمَّت تلك اللغة البَصْرة، أيام الحروب والحصارات (1980-2003)، لكنها كانت مكبوتة، وعادة تكون أمضى في العقول، ثم ركبت مركب الديمقراطية! والأملُ، أن يتعلم الجمهور المستلب بالصحوات والمنامات كيف يمارسها، ويختار وكلاءه في الدولة بلا فتاوٍ وخناجر. لم تسمع حكومة سامراء، وكانت العاصمة، شكوى البَصْريين من عبث الثوار، حيث دار الخلافة بين خليفة مقتول وآخر مسمول، فتأخرت حملة ولي العهد الموفق بالله (ت 278هـ) أكثر من سنتين، نُكبت فيها البَصْرة. ولشدته عُرف اليوم الذي اشتهر كنايةً «بعد خراب البَصْرة» بالبيداء ـ من الإبادة! ووصل أوار المعارك إلى الأهواز، وعمق أهوار الجنوب، وواسط. وبعد حروب ومواجهات شرسة، كُسر جدار الخوف، فقيل: تجد المرأة «الزنجي مستتراً بتلك الأدغال فترجه وتحمله إلى عسكر سعيد (ابن حاجب القائد العباسي) ما به عنها امتناع» (تجارب الأمم).

عموماً، لا يُلام الزنج لثورتهم، وقد شوت الشمس جلودهم من كسح الأسباخ من دون شبع بطونهم، مثلما لا يُلام الجوعى، والعاطلون عن العمل، اليوم، للانخراط في هذه الجماعة أو تلك بمئة دولار أو مئتين. إنها دورات خراب، إذا تُركت الأزمات متراكمات بلا حلول، وأُتخذت البَصْرة دار تسابق على الخيرات! تتداخل الأزمنة، في الأمس كان الزنج والموفق بالله العباسي، واليوم جيش المهدي ونوري المالكي، وتأتيك البقية! وبين زمن وآخر نظل مأخوذين بالظنون والأحداس، وعلى حد «معتبرة» الرصافي (ت 1945): «كم نشربُ الظنَّ فلا نرتوي.. ونأكل الحَدْس فلا نشبع»!

[email protected]