«الأعجوبة» في المقلب الآخر

TT

يعرف القراء (خارج لبنان) ان الدولة بلا رئيس جمهورية حتى الآن. وأن مجلس النواب مغلق. وان الحكومة محاصرة ومهيضة الجناح. وان الوضع الاقتصادي مترد. وان كثرة من الناس في حاجة. وانه للمرة الاولى في تاريخ هذا الشعب اصبحت ترى رجالاً واطفالاً ونساء يفتشون في اكياس القمامة عن بقايا الطعام. ومنذ ان بدأت هذه الظاهرة كان جوعى القمامة يظهرون في الليل، لكنهم الآن يظهرون في النهار. كل اوقات النهار. والاكثر اشارة للحزن مشهد السيدات، بكامل اللياقة والنظافة، يفتشن عن لقمة في كومة قمامة.

والجميع يعرفون (في الخارج) ان وسط بيروت مغلق. ولكن احداً لا يعرف الى أي مدى هو مغلق. وان مخيم «الاعتصام» اقيم بطريقة يشل معها المداخل والمخارج. ولذلك فرغ وسط المدينة ونبت العشب فيه، كما في اغنية فيروز وحزائنها. فأين هي، اذاً، «الاعجوبة» اللبنانية؟ انها هنا. مهلاً.

الذي لا يستطيع القراء رؤيته من الخارج هو الحياة الطبيعية في بلد لا رئيس فيه ولا برلمان ولا حكومة كاملة وقلب مدينته مغلق. وهو الورشة العجيبة في بناء الجسور فوق الطرقات والانفاق تحتها ومحاربة زحمة السير وتطويق العشق اللبناني المريع لاقتناء السيارات والهواتف الجوالة وارقام السيارات «المميزة» وجميع اشكال وادوات ومظاهر الوجاهة.

في هذا البلد المتأزم والمنكود دخلت الى مطعم قديم «جدَّده» اصحابه. وكنت قادماً من باريس ومطاعمها. واجزم بكل ثقة انه ليس له مثيل في باريس. كيف يقفل اللبنانيون هذا، لا ادري. كيف يقترعون لبعض السياسيين ويعمرون مثل هذه الاماكن الفائقة الجمال، لا ادري. وكيف يزرعون الموت في وسط بيروت ويعيشون مثل هذه الحياة على اطرافه، لا ادري؟ ومن اين يأتي كل هذا الجمال «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر»، والله لا ادري. لا ادري. ثم ما هو الفارق ان انا دريت من اين يأتين ام بقيت مثل حائر ايليا ابي ماضي «جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت، ولقد ابصرت قدامي طريقي فمشيت». اما انا فلم امش. لقد تسمرت. والتسمر في مثل هذا العمر هو اقصى ردود الفعل.