مصر.. وأجندة الهيمنة الإيرانية

TT

في عام 2003، كان المثقف المرموق محمد خاتمي، المعروف برؤيته العصرية، يتولى رئاسة إيران، متميزا بنهجه الإصلاحي، ويواجه ضغوطا عديدة من أجنحة التشدد المتنوعة في (المؤسسة الفارسية)، وقتها حضر قمة المعلومات الأولى في جنيف، التي حضرها أيضا الرئيس المصري حسني مبارك.

لم تكن بين مصر وإيران أية علاقات أو حتى تواصلات، وكانت لدى مصر تحفظاتها على السياسات الإيرانية.. أكثر من كونها تحفظات على الرئيس الإيراني نفسه.. تحفظات لم تزل قائمة.. وأضيفت لها الآن تحفظات جديدة. وقتها فاجأ خاتمي الجميع بأن طلب عقد لقاء خاص مع الرئيس مبارك على هامش قمة المعلومات.

رحب مبارك على الفور.. وفي عرف البروتوكول ـ باعتبار مبارك وصل إلى منصب الرئيس في مصر قبل أن يصل خاتمي لمنصبه بسنوات ـ كان يفترض في خاتمي ان يذهب إلى مقر مبارك.. لكن الرئيس المصري وفي بادرة من جانبه ذهب إلى مقر خاتمي.

في هذا اللقاء دارت نقاشات عديدة.. وسرت أجواء مميزة.. وعلى الرغم من ذلك لم يتفاءل بها الكثيرون في مصر.. في ضوء ان ما كان يقوله المعتدلون في إيران، ومنهم خاتمي، كان يسارع المتشددون بنقضه.. وكانت اكبر الأمثلة التي تؤكد ذلك هي واقعة اسم الشارع الذي يحمل في طهران اسم قاتل السادات.. والجدارية التي ترفع صورته على مبنى في نفس الشارع.. معبرة عن تمجيد إيراني لخالد الإسلامبولي.

وحين عاد خاتمي إلى طهران بعد لقاء مبارك محاولا تنفيذ تعهده لإرضاء مصر وفتح صفحة جديدة، واجه من بيده القرار الحقيقي في إيران.. ولم يتمكن من مناقضة التيار المتشدد ومن أبرز صقوره أحمدي نجاد الذي كان وقتها رئيس بلدية طهران.. ولم يتغير اسم الشارع.

إن اسم الشارع والجدارية يتخطيان أيضا كونهما مسألة مبدئية وذات دلالات منهجية عميقة.. فهما تعبير عن العلاقة الوطيدة التي تربط إيران بهذا النوع من الجماعات التي انتمى إليها خالد الاسلامبولي.. وفي الحوار مع إيران طرحت مصر تلك المسألة على نطاق أوسع وأكثر تحديدا من خلال ما أسمته المؤسسات المصرية (الملف الأمني بين مصر وإيران).. وهو ملف محوري وأساسي.. ويمثل تجاوز النقاط العالقة فيه مضيقا سياسيا لا يمكن إلا أن تعبر من خلاله عملية تطوير العلاقات بين البلدين.

مصر قالت لإيران عبر مستويات مختلفة، دبلوماسية وأمنية، ان لديها قائمة طويلة من الإرهابيين الهاربين المصريين الذين تؤويهم إيران، لكن إيران كانت في كل مرة تنكر وجود هؤلاء.. إلى ان اسقط في يد طهران حين قدمت لها القاهرة قائمة بأسماء الإرهابيين وأماكن الإقامة داخل طهران وغيرها، وأرقام التليفونات الأرضية والهواتف المحمولة التي يستخدمونها.. ومن المدهش وقتها ان المسؤولين الإيرانيين عادوا واقروا بما كانوا ينكرونه.. وتحججوا هذه المرة بأن هؤلاء (الإرهابيين) طلبوا منها ان تجيرهم فأجارتهم.. وبالتالي لن يمكن لهم ان يسلموهم.

وللتغطية على هاتين المسألتين فان إيران عادة ما تردد من حين لآخر ان مصر في المقابل مازالت تستقبل أسرة الشاه الراحل محمد رضا بهلوي الذين يزورون قبره في مسجد مصري في توقيتات منتظمة ومعلنة.. والواقع ان ذلك الموضوع الإنساني الذي تتحجج به إيران.. أو الجناح المتشدد في مؤسساتها ليس له تلك القيمة التي تعول عليها.

وأعتقد أنه لا يمكن الاستناد الى موقع رفات الشاه كذريعة من جانب إيران في موضوع تطوير العلاقات بين البلدين.. واعتقد جازما انه يمكن لإيران ان تطلب نقل رفاته من مصر إلى بلده.. كما ينبغي ان يعامل أي حاكم.. أيا كان الموقف التاريخي والسياسي منه.. إذ بغض النظر عن الثورة التي قامت ضده، فقد كان حاكما شرعيا.. وليس بعيدا عن ذلك أن الثورة قامت في مصر ضد الملك فاروق.. ثم حين مات كان ان دفنت رفاته في بلده. وإذا طلبت إيران نقل رفات الشاه، فلن تجد من يمانع. خاصة إذا وافقت أسرته.

وفي رأيي ان إيران دولة هيمنة.. تتميز بنرجسية شديدة.. تتعامل مع إقليم الشرق الأوسط كما لو أنه لا توجد قوى إقليمية أخرى غيرها.. وتطلب من الآخرين الاستجابة لأجندتها رافضة أي تعامل ندي.. او يقر بوجود تأثيرات الآخرين.

لن أتوقف هنا عند الجدل الذي تثيره إيران الفارسية من حين لآخر حول اسم الخليج العربي.. سواء حين قال ذلك أمير قطر خلال زيارته لطهران قبل سنوات.. او خلال اعتراضات الإيرانيين على موقع غوغل لانه يذكر اسم الخليج العربي وليس الخليج الفارسي كما يريدون.. وإنما أتوقف عند الطريقة التي تفكر بها إيران في المنطقة.. وفي الخليج عموما. مصر قوة إقليمية محورية، هذه حقيقة جيوبوليتيكية وتاريخية وواقعية لا تقبل الجدل، وهي تقبل وتحترم وجود القوي الإقليمية الأخرى، في مناخ من الحوار والمصالح المتبادلة رافضة الهيمنة والرغبة في الاحتكار.. لكن إيران راغبة في الاحتكار.. وفي توظيف الأوراق العربية لخدمة ملفاتها ومصالحها.

ومشكلة ايران انها تتجاهل حقيقة ان مصر القوة الاقليمية لديها اجندتها، ومصالحها القومية والوطنية، ولن تقبل على الاطلاق حدوث اي ترتيبات اقليمية بدون ان تكون فاعلة فيها.. ولن تحدث ترتيبات لأمن الخليج او لأمن البحر الأحمر او لأمن الشرق الأوسط عموما، بدون دور مصري أساسي ومحوري ووجود مصري فاعل.. بغض النظر عن رغبات الهيمنة والاحتكار الايرانيين.

مصر يعنيها استقرار الخليج، ودوله، وترفض العبث في مكوناته السكانية، وتفجير الطائفية بين ابنائه، كما يعنيها الحفاظ على استقرار العراق وعلى عروبته.. وعلى حفظ التوازن بين مقوماته وأعراقه وطوائفه.. ويعنيها امن لبنان.. واستقراره.. والوصول إلي حل أزمته من خلال المبادرة العربية.. ويعنيها ويهمها ـ وهذا هو محور أجندتها الأساسية ـ ان تحدث تسوية للقضية الفلسطينية.

إن من يتحدث عن ان مصر إنما تقوم باستخدام ملف العلاقات المصرية الإيرانية في إحداث نوع من الترضيات للولايات المتحدة الامريكية.. إنما يلجأ إلى حيلة غير منطقية في الجدل.. هذان ملفان غير مرتبطين.. ومصر تدير أجندتها وفق مقوماتها ومصالحها واستنادا إلي قراراها المستقل.. وبخلاف ما سبق ان أوضحته من نقاط فإنني ـ للتدليل على ما أريد إثباته ـ سوف أتوقف عند ملاحظتين يثبتان طريقة التفكير الإيرانية التي تخالف الواقعية العصرية وتصر على ان تقود أجندات الآخرين، ومصير الإقليم وفق منهج الهيمنة.

1) لم تزل ايران حتى الآن تتحدث عن اتفاقية كامب ديفيد وكيف انها تمثل خيانة للأمة الإسلامية. ومن عجب ان هذا الكلام لا يكتب في الصحف فقط.. بل وتطرحه ايران بسذاجة بالغة في الاجتماعات المغلقة.. كما لو انها تعتقد ان مصر سوف تقوم بإلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل.

2) في بداية شهر مارس، وحين كانت التفاعلات على أشدها في عملية تحضير كل طرف لمواقفه من القمة العربية.. التي شهدت غيابا عربيا كبيرا.. كان ان خرجت مظاهرات متزامنة في كل من طهران ودمشق أمام السفارتين المصريتين.. تهاجم السياسة المصرية والدولة المصرية وترفع شعارات التخوين.

وبغض النظر عن دلالات هذا التنسيق الإيراني ـ السوري، وتجسيد المظاهرتين لذلك المحور الرابط بين كل من دمشق وطهران، فإنني اعتقد ان مثل ذلك الفعل الإيراني كان كافيا جدا لان تفقد التواصلات الإيرانية المصرية ـ الهادفة إلى تطوير العلاقات بين البلدين من خلال الحوار المستمر ـ جذوتها. ان مثل تلك المظاهرات تحمل مضمونا اخطر بكثير مما يحمله اسم شارع وجدارية إرهابي وإيواء فارين من العدالة. وهي ملفات سبق ان أوضحت كم هي خطيرة أصلا.

* رئيس تحرير روز اليوسف اليومية القاهرية