العراق : الحاجة إلى بوتين آخر !

TT

يشير المفكر السلوفيني، سلافوج زيزيك، في معرض مقارنته بين روسيا في ظل الحكم السوفيتي الشمولي وما بعده الى وجود ما اسماه بالقواعد غير المكتوبة يحتكم اليها الافراد والمجتمع وتنتظم فيها أطر معينة من العلاقات السياسية والاجتماعية من دون ان يتم الاعتراف بها بشكل رسمي او يعلنها احد على الملأ. فعندما كان الفرد يواجه مشكلة مثل الحاجة الى علاج متقدم او سكن او لديه قضية في المحاكم او مؤسسات الدولة كان يعرف جيدا اين يذهب والى من يشتكي او من يرشي، وبهذه الطريقة اعتاد الناس على نمط من التعامل مع مشاكلهم. أما بعد انهيار الحكم الشمولي، وفي ظل عهد الرئيس يلتسين، فقد عاش الناس ارتباكا واضحا تجلى تدريجيا بشعورهم بما يسميه صاموئيل هنتنغتون «نوستالجيا السلطوية» او الحنين الى الديكتاتورية، فقد انهارت القواعد غير المكتوبة كما عرفها الناس وطفت الى السطح المافيات ومراكز القوى ولم يعد واضحا الى من يجب ان يشتكي الناس او لمن يعطون الرشوة، فليست هناك سلطة محددة المعالم ومؤسسات مكتملة البناء. لذلك يبدو ان احد اسباب جاذبية بوتين هو انه اعاد الى الروس بعضا من القواعد غير المكتوبة عبر فرضه قدرا من الاستقرار وانشائه لمركز سلطة مهيمن، واليوم بإمكان معظم الروس ان يعرفوا اين يكمن القرار ومن صاحب السلطة ومن يجب ان يشتكى اليه والى من تعطى الرشوة بلا خوف من ضياعها دون تحقيق الرجاء.

الحال في العراق، منذ سقوط النظام السابق، مشابه لحال روسيا يلتسين مع الشعور المتزايد بالحنين الى الديكتاتورية، ليس حبا بها بل لانها شهدت ايضا هيمنة نوع من القواعد غير المكتوبة التي كان يعرفها الجميع، لذلك ليس غريبا ان تسمع اليوم انسانا عراقيا بسيطا يقول لك: «حسنا لقد كان نظاما ديكتاتوريا دمويا لكننا كنا نعرف ما يجب ان نفعله وما لا يجب ان نفعله، ونعرف كيف نتجنب ما يجب تجنبه». فمثلا احدى اكبر مظاهر معاناة الشباب في ظل ذلك النظام كانت الخدمة العسكرية والدعوات «غير المبررة» للتجنيد مع كل ما تحمله من ضغط على اصحاب العمل والكسبة ومن لديهم عوائل، وفي الحقيقة ان التجنيد كان وسيلة النظام المثلى للسيطرة على حركة الشارع، وبغض النظر عما يقوله المتغزلون بالجيش القديم فان هذه المؤسسة اصبحت في التسعينيات وبعد آثار هزيمة الكويت، وقبل ذلك التصفية التدريجية لقادتها المحترفين، من اكثر المؤسسات فسادا في العراق تحكمها قواعد غير مكتوبة ربما تم ايراثها للجيش الجديد (حيث يقال ان الفساد في وزارة الدفاع يفوق جميع الوزارات)، مع ذلك كان الكثير من المجندين ورغم ما يتعرضون له من إذلال بل وبسبب هذا الاذلال يجدون طريقة لعدم الالتحاق او لنقل وحداتهم الى مكان قريب عبر الرشاوى التي تدفع للضباط والتي وصلت حد وضع تسعيرة شبه ثابتة للإجازة، واصبحت الرشاوى من اكبر مصادر تمويل بعض الضباط، ومن الجيش انتقلت الرشوة الى بقية مؤسسات الدولة وعشَّشت فيها حتى اليوم، هناك تسعيرة لجواز السفر وللجنسية ولجميع المعاملات، فضلا عن وجود مراكز سلطة معروفة يمكن اللجوء اليها للشكوى لمن يستطيع بلوغ هذه المراكز او يستعيض عنها برشوة موظف صغير، المهم كانت هذه القواعد غير المكتوبة معروفة من الناس الذين تكيفوا معها واصبحت جزءا من ثقافتهم ونظام حياتهم. اليوم يعيش المواطن إرباكا بسبب عدم وضوح هذه القواعد وليس لغيابها، فالانتقال يحصل افتراضا نحو دولة المؤسسات وثقافة القواعد المكتوبة والمعلنة وحيث لا تتمركز السلطة في مكان واحد ويمكن للمؤسسات ان تراقب بعضها، لكنها ثقافة لم تؤسس لنفسها جذورا حقيقية في المجتمع، والنتيجة التي حصلنا عليها لحد الان هي خليط من الثقافتين عكستها مفارقات من قبيل ان المؤسسات بدلا من ان تراقب بعضها تترصد بعضها وقبل ان تؤسس لنفسها شرعية واضحة تشهد صراعات داخلية تطيح بهذه الشرعية، وهي بدل من ان تتعاون «تتواطأ». وهناك من يستمر بدفع الرشوة ومن يستمر بتقاضيها ومن ما زال يكتب الشكوى ومن ما زال يتلقاها ولكن ليست هناك قواعد تحكم هذه العلاقات في ظل صراع المافيات وتداخل الصراعات والصلاحيات وغياب مراكز سلطة واضحة.

لا بد من الاستدراك بالقول إن معظم البلدان التي تشهد انتقالا من النظام الشمولي تواجه الكثير من المصاعب والتحديات والخيارات المؤلمة التي يواجهها العراق مع فارق ان تجربة التحول في هذا البلد تختلف في طبيعتها من حيث الاسباب والانماط وربما من حيث كونها واجهت من «المقاومة» الداخلية والخارجية ما لم تواجهه تجربة تحول اخرى. ولكن التحدي الاكبر هو الانتقال بالنمط الثقافي وهو تحد لا ينتهي باستبدال المؤسسات بل بإعادة تشكيل الثقافة الاجتماعية ونقلها من بناها التقليدية الى بنى حديثة، أمر لست متفائلا برؤيته في وقت قريب. ان معظم بلدان الشرق الاوسط تحكمها القواعد غير المكتوبة، والطريف أن الكثير من العراقيين يميلون الى العيش في هذه البلدان او يستقرون فيها لانهم ببساطة يفهمون «الشيفرة» التي اعتادوا عليها.

من المدهش كم من المؤسسات العصرية لدينا، بعد زمن طويل من الانحطاط الفكري وانحلال الطبقة الوسطى، وهكذ اصبحت الكثير من المواقع محجوزة لاولاد العم حتى لو غابت عنهم اي من مؤهلاتها. انه صراع قيمي وثقافي سيستمر حتى تنتصر احدى الثقافتين، فإما ديكتاتورية تعيد إحياء القواعد غير المكتوبة (وبالطبع معها كل مآسي الديكتاتورية) او ديمقراطية وحكم مؤسساتي تحكمه القواعد المكتوبة التي يحتكم اليها الجميع، وفي مقدمتهم كاتبوها، وحتى ذلك الوقت ربما لا يحتاج العراق الى مانديلا آخر بقدر حاجته الى بوتين آخر.