حزب الله: من المقاومة إلى المقامرة..

TT

«الشرعية» هي تلك الكلمة السحرية التي تُفرق بين من يحمل السلاح ويُمارس العنف بحق، وبين من يحمل السلاح ويُمارس العنف بغير حق. الحق هنا، وهو الذي يشكل أساس الشرعية، هو قبول من يُمارس العنف ضده بحق مُمارسه في ممارسته. فالدولة، وهي أكبر منظمة لممارسة العنف في المجتمع، والمحتكر الأوحد لأدوات العنف فيه، تمارس عنفها وسط قناعة المجتمع وقبوله بأن هذه الممارسة حق لها، وذلك من أجل تنظيم المجتمع وضبطه، في إطار من قانون يحول دون تحول هذا العنف وذاك الاحتكار إلى قوة غاشمة، كما هو الحال في عصابة تمارس العنف دون أن يكون لها وجه حق، أو قبول عام، بهذه الممارسة. أحياناً قد تُمارس الدولة العنف بشكل مفرط، أو بدون إطار من قانون مُنظم، كما هو الحال في الأنظمة العسكرية مثلاً، ولكن ذلك لا ينفي مبدأ أن للدولة الحق في ممارسة العنف، طالما كان ذلك مؤطراً بقانون، وساعياً إلى مصلحة عامة. بشكل عام، وباختصار، حين تُمارس الدولة العنف فإنها تُمارسه في إطار القانون، ومن أجل مصلحة جميع من ينتمي للدولة، وهذا هو أساس شرعيتها، أي قبول المجتمع لمثل هذه الممارسة.

وبمثل ما أن شرعية الدولة تستند في المقام الأول إلى الرضا والقبول، فإن ذات المبدأ يسري على منظمات أخرى غير الدولة، تستند في شرعية وجودها، وممارستها للعنف، حين تنتفي البدائل الأخرى، وذلك مثل حركات التحرر الوطني، أو تلك المعارضة لدولة ليس لها من الشرعية إلا القوة المجردة، وذلك مثل الأنظمة التي تأتي على ظهر دبابة.

حين نطبق ما سبق ذكره على حزب الله اللبناني، والأحداث الأخيرة في بيروت، نجد أن المسألة تحتاج إلى بعض التحليل. فقد خرج حزب الله من عباءة حركة أمل، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، واحتلال بيروت عام 1982، على أساس مقاومة الوجود الإسرائيلي في لبنان، وهو الوجود الذي وقفت الحكومة اللبنانية عاجزة عن التصدي له، ومن هنا اكتسب حزب الله شرعيته، أي الرضا العام بوجوده وقبوله، من خلال تصديه للمحتل، وبصفته حركة تحرر وطني. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000، وسّع حزب الله من نفوذه، وخاصة في الجنوب اللبناني، وتحول إلى دولة داخل دولة في الجنوب، يُمارس كل وظائف الدولة تقريباً، ومن ضمنها حمل السلاح، وكل ذلك تحت مظلة المقاومة، في ظل عجز الدولة اللبنانية عن ذلك. في عام 2000، انسحبت القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، فكان ذلك انتصاراً للمقاومة اللبنانية عامة، ولحزب الله خاصة، الذي تحول بعدها إلى خط أحمر لا يجوز تجاوزه، فكل نقد له هو نقد للمقاومة، وكل حديث بنزع سلاحه هو حديث عن نزع سلاح المقاومة، فحظي الحزب بما لم يحظ به أي تنظيم آخر، وامتدت شرعيته لتشمل طوائف وشرائح أخرى من المجتمع اللبناني، لا علاقة لها بالطائفة الشيعية التي انبثق من أوساطها. بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، تحول حزب الله إلى دولة فعلية في جنوب لبنان، ولم يعد مجرد حزب ضمن أحزاب لبنانية أخرى، وهو الذي يملك الموارد والسلاح والتنظيم الصارم، نتيجة علاقاته التحالفية مع إيران خاصة، وابتعد كثيراً عن قضية المقاومة، التي لم تعد إلا أساساً للشرعية، ولكنها ضرورية لتبرير وجود الحزب، الذي بدونها يتحول إلى حزب ضمن أحزاب، وبالتالي يفقد شرعية التميز، أي امتلاك السلاح، وممارسة عنف هو حكر على الدولة مبدأً. شعر حزب الله بعد تحرير الجنوب، ومع مرور سنوات على التحرير، أن شرعيته، أي شرعية المقاومة، قد بدأت تتآكل، وأن كل مكتسباته ونفوذه كدولة داخل دولة، قد بدأ السؤال يدور حولها، خاصة في ظل الارتباط العضوي بين الحزب والنظام الإيراني الذي يمنحه المال والسلاح من ناحية، والتحالف الاستراتيجي مع النظام السوري الذي يمنحه الحماية في الداخل من ناحية أخرى، مما قلل من «لبنانية» الحزب، وأضعف موقفه في غير الجنوب اللبناني، خاصة بعد رحيل القوات السورية، وتزايد الأصوات المنتقدة للحزب، بوصفه دولة طائفية داخل الدولة، ومن هنا بدأت شرعيته في التآكل. لذلك كان على الحزب أن يجدد شرعيته الأساسية التي بررت وتبرر وجوده، وهي شرعية المقاومة، فكان الذي حدث في صيف 2006، حين تم خطف جنديين إسرائيليين، لتقوم إسرائيل بحربها المدمرة على لبنان، وليعود شعار المقاومة قوياً من جديد، حتى لو كان كل لبنان هو الثمن، فالمهم في النهاية هو وجود الحزب، والنفخ في قربة المقاومة من جديد، وتجديد شرعية كانت قد بدأت تتهاوى.

ولكن المقامرة، ولا أقول المغامرة، التي جرّ حزب الله لبنان إليها في صيف 2006، لم تعط النتائج المطلوبة كما كان المنتظر، بمثل ما فعل الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، ولم تعد «المقاومة» تلك الكلمة السحرية التي تحقق المعجزات، إذ انقسم اللبنانيون إلى مؤيد ومعارض لتلك المقامرة، بل ويمكن القول إن لبنان انقسم إلى مؤيد في الجنوب إلا ما ندر، ومعارض في الشمال إلا ما ندر، فكان ذلك مؤشراً على بداية عزلة حزب الله لبنانياً، وتحوله إلى تنظيم طائفي ذي علاقات خارجية مشبوهة، وذلك في ذات العين التي كانت تراه رمزاً للمقاومة الوطنية، وتجسداً لتحرك قد يؤدي إلى خلق لبنان جديد. أدرك الحزب وضعه الجديد هذا جيداً، ولكنه بدلاً من أن يُصحح أوضاعه ليعود حزباً لبنانياً ضمن أحزاب لبنانية أخرى، يحاول الوصول إلى السلطة في إطار الشرعية والقانون، إذا به تأخذه العزة بالإثم، فينقلب على الدولة التي يُفترض أن يكون ضمن إطارها، ويحاول أن تكون الدولة ضمن إطاره، من حيث أنه أكبر من الدولة، ولم تعد الدولة أكبر منه. صحيح أن الدولة اللبنانية ضعيفة كل الضعف، ولكن ذلك لا يعني نفيها لحساب هذا التنظيم أو ذاك الحزب، بل من المفترض دعمها وتقويتها من أجل أن تستمر مظلة لكل ما هو لبناني، وإلا فإن الدولة، إنْ بقيت هناك دولة، تتحول إلى حارة شبيهة بحارة غوار الطوشه، أي «حارة كل من إيدو إلو»،

ما فعله حزب الله في بيروت خلال الأيام القليلة الماضية، بتبريرات واهية شبيهة بتلك التبريرات التي طُرحت حين جُرت إسرائيل للحرب على لبنان، هو سطو على الدولة، وسلب للسلطة، من دون أساس من الشرعية، وبذلك يتحول حزب الله من تنظيم وطني له كل شرعية الوجود، إلى جماعة مسلحة ترتكن إلى السلاح والعنف والقوة المجردة، بدون أن تكون لها أي صفة أخرى، سواء كان الحديث عن المقاومة، التي تحولت من الجبهة الإسرائيلية إلى الجبهة اللبنانية، ومن اسقاط الصواريخ على تل أبيب إلى اسقاطها على بيروت، أو كان الحديث عن الوحدة الوطنية، بعد أن أظهر الحزب طائفيته دون رتوش، أو كان الحديث عن الوطنية، بعد أن أصبحت طهران هي مصدر القرار اللبناني وليس بيروت. لقد قطع السيد حسن نصر الله، بفعلته تلك، ذلك الخيط الرفيع الذي كان يربطه مؤخراً ببقية اللبنانيين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، ووضع كل بيضه في السلة الإيرانية، ومن يضع كل بيضه في سلة واحدة، ما هو إلا مقامر مندفع، يُريد كل شيء، ومن يريد كل شيء، ينتهي به المطاف إلى لا شيء. ما فعله السيد حسن نصر الله في بلده ومواطنيه سوف يكون له من النتائج الشيء الكثير، وهي نتائج ليست في صالحه أو صالح حزبه أو صالح الشيعة في النهاية، وإن كانت نتائج كارثية على الجميع أيضاً. باحتلال بيروت واغتصابها، فإن السيد حسن نصر الله أشعل فتيل برميل بارود يجلس عليه الجميع، وحين ينفجر، فإنه سيأخذ في طريقه من كان السبب في انفجاره ومن لم يكن. وربما كان هذا هو الهدف البعيد للسيد، وللقرار الإيراني السوري، بتفجير الأوضاع في لبنان، أي: إن مت ظمآناً، فلا نزل القطر.