هل تندلع الانتفاضة الثالثة داخل دولة إسرائيل؟

TT

بعد أربعة أيام، تحل الذكرى الستين لنكبة فلسطين. الذكرى التي بدأت يوم 15 أيار/مايو 1948. ذكرى كلها ألم حزن، ضاع فيها وطن وتشرد شعب، ولذلك كان طبيعيا أن يرفع الفلسطينيون المكلومون في وجه الإسرائيليين شعارهم القائل: «انتصاركم هو يوم نكبتنا».

وبينما يحتفل الإسرائيليون مبتهجين بهذه الذكرى، يستطيعون أن يتطلعوا حولهم، وأن يشاهدوا نتائج جريمتهم صامدة أمامهم في كل أنحاء العالم. فماذا يشاهدون حين يحدقون بأبصارهم؟ يشاهدون فلسطينيي الشتات العالمي، في أميركا اللاتينية، وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي دول أوروبا، وفي كندا واستراليا، يتجمعون ويتذكرون ويرفعون شعرا واحدا يطالب بحق العودة. ويشاهد الإسرائيليون أيضا حين يحدقون بأبصارهم، فلسطينيي اللجوء في البلاد العربية، وقد اصبح عددهم بالملايين، يتجمعون ويتذكرون ويرفعون شعار حق العودة. ويشاهد الإسرائيليون أيضا وايضا حين يحدقون بأبصارهم، الفلسطينيين من حولهم، فوق أرض وطنهم فلسطين، وفوق ما يسمى بدولة إسرائيل، وهم يحيون ذكرى نكبتهم، بينما يحتفل الإسرائيليون من حولهم بذكرى انتصارهم. وينظم هؤلاء الفلسطينيون القابعون فوق أرض وطنهم، مسيرات نحو القرى التي تم تهجيرهم منها، والممنوعون حتى اليوم من العودة إليها، أو البناء فوقها. وهكذا.. فإن الإسرائيليين أينما تلفتوا، سيشاهدون من حولهم، لاجئي شعب فلسطين، يحتشدون بالمئات والآلاف والملايين، ملتفين حول شعار واحد يطالب بحق العودة. بينما يحتشد الإسرائيليون بالمقابل، مانعين ورافضين لحق عودة الفلسطيني، حتى ذلك الفلسطيني المقيم فوق أرض وطنه، والمهجر من قريته أو بلدته.

وإذا كان الإسرائيلي لا يهتم كثيرا بنشاط الفلسطينيين في العالم أو في البلاد العربية، فلماذا لا يهتم أبدا حتى بنشاط الفلسطينيين المواطنين داخل دولة إسرائيل؟ ربما لأن وجودهم كأقلية، أقلية تبلغ مليون ونصف مليون نسمة، وأقلية تبلغ 20% من السكان، يذكر الإسرائيلي أكثر من أي شيء آخر بأن وجوده فوق أرض فلسطين، هو وجود قائم على جريمة مرتكبة، وهو يتعمد أن يغمض عينيه عما حوله، لكي لا يرى الجريمة، ولكي لا يتذكرها.

ومن حق الإسرائيلي أن يرى ما يريد، وان يتذكر ما يريد. من حقه ألا يرى ما يريد، وألا يتذكر ما يريد. ولكن هذا لا يلغي حركة الأحداث من حوله. وحركة الأحداث هذه تقول، إن الفلسطينيين تحركوا أول ما تحركوا ضد دولة إسرائيل من الخارج. تحركوا كلاجئين طردوا من وطنهم، وكان ذلك خلال سنوات مديدة من 1965 إلى العام 1987. وتحركوا في المرة الثانية من الداخل، من داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن خلال ما سمي بالانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت عام 1987. وها نحن نشهد الآن تحركا ثالثا يسهم فيه فلسطينيو 1948 بنشاط ملحوظ، حتى ليحق لنا أن نسأل إذا ما كنا على أبواب مرحلة جديدة، يتصدر النضال فيها الفلسطينيون الصامدون فوق أرض وطنهم الأم، وبحيث ينتقل ثقل النضال في هذه المرحلة إلى داخل دولة إسرائيل؟ إذا حدث شيء من هذا، قد ترتفع شعارات تطالب بدولة لجميع مواطنيها، أو بالحق في الحكم الذاتي، أو بحقهم في العودة إلى قراهم التي لا تبعد عنهم سوى مئات الأمتار. وإذا ما حدث شيء من هذا، فإن مرحلة جديدة من النضال تكون على وشك البدء، وسيكون أتون هذه المرحلة داخل دولة إسرائيل. لا من خارجها ولا من حولها.

نقف أمام هذا الاحتمال لنقول إن الإسرائيليين هم الذين دشنوا هذه المرحلة. فقد بنى الفلسطينيون داخل دولة إسرائيل، مؤسسات لهم حسب القانون. واجتهدت هذه المؤسسات واقترحت مشاريع قوانين ودساتير حسب القانون. ورفعت هذه المؤسسات مطالب وشعارات تطالب بالمساواة حسب القانون. ولكن المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) رأت في هذا النشاط الفلسطيني خطرا على الدولة، ووضعت خطة لضرب هذا النشاط ومؤسساته، قبل أن يخرج حسب قولهم، من إطار «النخبة» إلى إطار الشارع. وكانت البداية تلك الحملة التي نظمت ضد الدكتور عزمي بشاره، والذي ارتكب تلك الجريمة التي لا تغتفر، حين بلور شعار «دولة لكل مواطنيها»، ورأى الإسرائيليون في هذا الشعار تدميرا لدولة إسرائيل، لأنه يلغي يهودية الدولة، ولأنه يفضح عنصريتها ضد مواطنيها من غير اليهود. وحين بدأت الشاباك معركتها ضد تلك المؤسسات الفلسطينية، أحس هؤلاء الفلسطينيون المقيمون فوق أرض وطنهم داخل دولة إسرائيل، أنهم مهددون بالتهميش من جديد، فبادروا إلى المزيد من النشاط، وإلى المزيد من التحرك دفاعا عن هويتهم. وجاءتهم الذكرى الستون للنكبة، فنظموا من خلالها نشاطا شعبيا واسعا، يقف في قلبه وفي جوهره، تنظيم زيارات إلى القرى التي هجروا منها، كتعبير رمزي عن ممارستهم لحق العودة. وهكذا.. بدلا من أن تضعهم أجهزة الشاباك داخل الأقفاص، فإن هذا النشاط يكاد يؤذن بانتفاضة شعبية فلسطينية ثالثة، تندلع هذه المرة داخل دولة إسرائيل، وتدشن مرحلة جديدة في معركة العودة إلى الوطن.

يحدث كل هذا بينما يعلن أكثر المفاوضين اعتدالا، أن المفاوضات مع إسرائيل (ومع واشنطن) تسير من فشل إلى فشل، وبينما تكشف إسرائيل عن نواياها الحقيقية القائلة بأنها لا تريد التفاوض، ولا تريد الاتفاق، ولا تريد إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وأنها تريد بالمقابل الاستيلاء على نصف الضفة الغربية، والسيطرة على الأمن والمياه والأجواء والمعابر، وأنها تضع الفلسطينيين في النهاية أمام خيار واحد وحيد، هو القبول بحكم ذاتي تسيطر عليه إسرائيل.

وفي خلفية هذا الذي تريده إسرائيل، تنمو داخل المجتمع الإسرائيلي تيارات واتجاهات تشكل خطرا على أي مجتمع مهما كانت هويته:

ينمو التيار اليميني المتطرف ممثلا في حزب الليكود وفي حزب كديما. ويتحول حزب العمل من حزب يساري إلى حزب يميني، ويصبح زعيم حزب العمل ايهود باراك منافسا لزعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو في التطرف والنهج العنصري واعتماد سياسة القوة.

وينمو التيار الديني الأصولي داخل الأحزاب وخارجها، ويصبح له النفوذ الأكبر في أوساط المستوطنين، وداخل مؤسسة الجيش بين الجنود والضباط.

وتنمو داخل التيارات الصهيونية آراء ومواقف تحذر من المستقبل المغلق، الذي تسير نحوه إسرائيل، ومعها الحركة الصهيونية بأكملها، حتى أن بعضهم يتساءل: هل ستعيش إسرائيل مائة سنة؟ وحتى أن بعضهم الآخر يحذر من النازي الذي ينمو داخل الشخصية الإسرائيلية، منبها إلى ضرورة التخلص من هذا النازي، ومن تأثيره على التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين.

وتنمو داخل المجتمع الإسرائيلي أجواء تدفع الكثيرين للتفكير في الهجرة من إسرائيل إلى خارجها، خوفا من الحروب الجديدة التي سيكون الداخل الإسرائيلي ميدانا لها، كما حدث في حرب لبنان 2006، بعد أن بنت إسرائيل طويلا نظريتها الاستراتيجية على الحروب، التي يتم نقلها إلى أراضي الآخرين، وتبقى إسرائيل الداخل في منأى عنها، حتى ان جنرالات في إسرائيل بدأوا يتحدثون عن ضرورة تجنب الحروب المقبلة، خوفا من هذا الاحتمال ونتاجه.

كل هذا يحدث داخل الجبهة الإسرائيلية. داخل جبهة الفكر الصهيوني. داخل التفكير العسكري الاستراتيجي. وجنبا إلى جنب مع نمو وتعاظم التيارات الفلسطينية المطالبة بحق العودة. وكل ذلك في الذكرى الستين لإنشاء دولة إسرائيل.

لقد سعت إسرائيل في مرحلة التفاوض المديدة، ومنذ مؤتمر مدريد عام 1991 حتى اليوم، إلى بذل جهد دؤوب من أجل إبعاد قضية اللاجئين عن جدول أعمال المفاوضات. وها هي الذكرى الستون تهل عليها وعلينا، ولكن مع فارق نوعي كبير، إذ يبرز شعار حق العودة كشعار فلسطيني على مستوى العالم، ومن خلاله تفرض قضية اللاجئين نفسها على كل مفاوضات دارت أو يمكن أن تدور، ويتأكد للجميع أن جوهر القضية الفلسطينية، أي طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وحقه في العودة إليها، يبقى هو الموضوع الرئيسي، سواء قبلت بذلك إسرائيل أو لم تقبل. وسواء أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش تأييده لموقف إسرائيل أو لم يعلن.

وهذا هو الدرس الكبير الذي يمكن استخلاصه من صخب الاحتفاء بالذكرى الستين لإنشاء دولة إسرائيل، أو لبدء نكبة فلسطين.