زورب تزمط

TT

أنا عائدة من بيروت. لا بيروت الصبا والجمال، ولكن بيروت التي اشتعل غضبها حتى سال وانسكب. بيروت الشوارع التي لفظت آخر أنفاسها العاقلة وسلمت قيادها لسماسرة البارود والنار.

مر يوم الوصول لطيفا خفيفا لا ينذر بسوء، ولكن كيف لا وقد لاحظت أثناء تناول العشاء مع زميلة في مطعم في السوليدير، انني انا وهي زبونتا المطعم الوحيدتان؟ كانت الشوراع خالية، والمحلات خاوية إن لم تكن قد اقفلت أبوابها.

ونسيت هذا الخواء الحزين في غمرة انشغالي بعملي الى ان تفجرت أزمة الاضراب وما تلاها من أحداث. اشتعل القتال وأغلقت النيران الشوارع وأغلق الطريق الى مطار بيروت، ومع ذلك لم يدر بخلدي ان مغادرة بيروت اصبحت أبعد من نجوم السماء. أصبح استئجار سيارة تحملنا الى الحدود شبه محال، نظرا لكثرة الطلب أو خوف الشركات من عاقبة المحاولة. وحين حصلنا على السيارة كان طريق المصنع مغلقا، فقصد السائق طريق الجبل نحو زحلة ليكتشف بعد ساعتين ان هذا الطريق أيضا مسدود مسدود.

عدنا الى بيروت لنبدأ رحلة نحو طرابلس أملا في الوصول الى الحدود من ناحية الشمال. كنا أربع نساء وسائقا. أم تبكي حظا عاثرا في يوم تجمعت غيومه ودخانه ووعيده، بحيث لم تر أملا في الرجوع الى ابنتيها الطفلتين، فبكت واعلنت انها مستعدة لاختراق الحواجز والإطارات المشتعلة والسفر الى آخر الدنيا، وأخرى لبنانية بكت وطنا كاد أن يلفظ انفاسه الأخيرة ليتربح من وراء موته البعض صولجانا او مالا لا يعد ولا يحصى. وثالثة لم تتجاوز الحادية والعشرين غاب عنها كل شيء إلا امرا واحدا وهو ان تلك هي كانت تجربتها الاولى في السفر بعيدا عن وطنها بدون مرافق.

على مداخل طرابلس كان بانتظارنا طابور طويل من السيارات التي تنتظر الفرج وخبر يقول بأن الطريق الى الحدود مغلق، وهنا اسعفت البديهة سائقنا المخضرم بكلمة سوف تظل محفورة على جدران ذهني ما حييت. قال العم توفيق: شو بدنا نعمل؟ ياللا بنزورب. ولمن لم يتفقه في قاموس العامية اللبنانية اقول ان الزوربة والكسدرة والزعرنة

والزعبرة كلمات تحمل كل منها طبقات فوق طبقات من المعنى. ولكن في ذلك الموقف بالتحديد كانت الزوربة طوق نجاة من الاصابع النهمة الى اطلاق النار. زوربنا أي اخترقنا الحواري الخلفية الملتوية بعيدا عن الطرق الرئيسية التي احتلها المقاتلون الى ان وصلنا الى عريضة على الحدود السورية، فسمعت زميلتي اللبنانية تطمئن شقيقتها عبر الجوال بأننا زمطنا... ولمن لا يعرف فوائد الزمط وآلياته اقول ان الزمط هو ان تنفذ بمعجزة كما ينفذ البعير من ثقب ابرة. المهم اصبح زعران الحرب من خلفنا وزعران الحدود من امامنا والفوضى التي لا يتقنها من شعوب العالم سوى العرب من أمامنا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا. ما لم يقض عليه الخوف من بارودة طائشة قضى عليه الدفع والزحام وقلة النظام.

كيف نشتهي ديمقراطية الغرب ونحن لا نمارس سوى شرعية القوة؟ إن لم تصدق جرب الوقوف أمام شباك وبيدك جواز سفر ينتظر ختما بيد موظف تسكره غطرسة القوة، كلما بانت عليك إمارات التعب وطلت من عينيك نظرة رجاء. ولكن هذا موضوع لحديث آخر.