معبر إلى الهجرة

TT

اشتهر كتاب «لعبة الأمم» في العالم العربي أكثر مما عرف حيث نشر، أي في الولايات المتحدة. وقد وضعه يومها الموظف السابق في السي. آي. ايه مايلز كوبلاند، ولم يستطع أحد أن يتبين الحقائق من عمليات التشويه والتمويه. وكان كوبلاند ذا مخيلة واسعة وضوابط ضيقة. وقد تمتع به العرب في أي حال، إذ أساء لخصومهم وفضح البعض الآخر، ودس على البعض الثالث. واستغل كوبلاند صداقاته والرجال الذين ساعدوه بنية حسنة، وحولهم إلى ضحايا. ورغم معرفة الجميع بمدى صدقية كوبلاند فقد استخدمه البعض «كمرجع» في الحروب المتبادلة بين المتخاصمين والمتنافسين.

ورغم معرفتي بهذه الصورة للرجل فقد توقفت في كتابه عند نقطة لا تنسى، ويمكن استعادتها كلما وقف لبنان على شفير النزاع. فقد روى كيف أن مجهولا اغتال الصحافي نسيب المتني، صاحب جريدة «التلغراف» الذي كان يعارض الرئيس كميل شمعون بعنف العام 1958. وفور الاغتيال توجهت الأصابع فورا الى الدولة، فنزلت المعارضة الى الشارع والمتاريس. وفي الوقت نفسه نزلت الموالاة من جانبها الى الخنادق. ويستخلص كوبلاند أن ذلك يعني ان الفريقين كانا قد استعدا لساعة المواجهة.

كلما وقع حريق جديد في لبنان أتمنى ألا تكون هذه ساعة المواجهة. لم يكن لبنان في أي مرحلة من المراحل مخزنا للتفجر سريع الاشتعال، كما هو اليوم. وكل الحركات التي حدثت في الماضي كان المسلمون في جانب واحد وأكثرية المسيحيين في جانب آخر. الخطورة الكبرى الآن ان المسلمين في مواجهة بعضهم البعض والمسيحيين في مواجهة بعضهم ايضاً. وكذلك فإن بعضهم يوالي 14 اذار والبعض يوالي المعارضة.

العام 1958 انقسم اللبنانيون حول عبد الناصر والعام 1975 انقسموا حول المقاومة الفلسطينية، ولكنهم الآن منقسمون حول سورية وإيران والفلسطينيين والمقاومة. وطوال حروب 1975 ظل المطار الدولي مفتوحاً، فيما هو اغلق امس بسبب اضراب عمالي. وسوف تفتح في المقابل المطارات القديمة والمرافئ القديمة التي كانت ترحّل الناس الى قبرص ومن هناك يتوزعون حول العالم وفي مهاجر الأرض. وكلما اشتدت الأزمات تبين لكل فريق أنه يجب أن يكون له مطاره او مرفأه، على الاقل، ليس من أجل ان يبقى للعائدين مدخل الى لبنان، بل من أجل أن تتوسع أبواب المخارج وطرق المهاجر.

ربما كان هذا هو لبنان الحقيقي في نهاية المطاف: معبر لمواطنيه الى دول الأرض. وقبائل تهجّر بعضها بعضا: براً وبحراً وجواً.