فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا!

TT

حين فُوجِئ العالم بعرض صور افتراضيّة أمام الكونغرس الأميركي «للموقع السوري» الذي قصفته إسرائيل منذ قرابة عام كان السؤال الذي تكرّر من قِبل جميع وسائل الإعلام لماذا الحديث عن برنامج سوري لتطوير «أسلحة دمار شامل» ولماذا الآن؟ لماذا هذا التوقيت بالذات، ولماذا تمّ هذا «الاكتشاف» الآن؟ ولم يتذكّر أحد حينها موعد «تجديد العقوبات الأميركية» على سوريا. اليوم يأتي الجواب على ذاك السؤال، إذ أصبح واضحاً أنّ الهدف هو تقديم تبرير، يبدو جديّاً، حول تمديد العقوبات الأميركية على سوريا لعام واحد والتي تتضمّن حظر تصدير بعض المنتجات إلى سوريا أهمّها أدوية الأطفال وقطع تبديل للطائرات المدنيّة. ولكن الذي يقرأ توضيح بوش لأسباب الأمر التنفيذي ورسالته إلى الكونغرس يظن أنّه يتحدّث عن قوة اقتصادية وسياسيّة ضاربة في أصقاع الأرض تهدّد بقوّتها الاقتصادية العسكرية القوّة العظمى بل الأعظم في عالم اليوم. فقد كتب الرئيس الأميركي: «اتخذتُ هذه الإجراءات لمواجهة التهديد غير العادي والاستثنائي الذي تشكّله أعمال الحكومة السوريّة على الأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة واقتصاد الولايات المتحدة» وذيّل اتهاماته لسوريا «بامتلاك أسلحة دمار شامل وبرامج للصواريخ بما في ذلك الكشف مؤخراً عن تعاون نووي غير مشروع مع كوريا الشماليّة». يكادُ المرء لا يصدّق أنّ رئيس دولة ديمقراطية يتفوّه بعبارات لا تتحلّى بأدنى درجة من المصداقيّة، ولا ينبري له أحد في وسائل الإعلام «الحرّة» ليسأل على الأقل: «كيف يمكن للاقتصاد السوري ولأعمال الحكومة السوريّة» أن تشكّل «تهديداً استثنائيّاً وغير عادي للأمن القومي الأميركي؟» بل و«على الاقتصاد الأميركي» الذي هو من الجبروت بحيث انفق فقط على حرب العراق 3 تريليونات دولار، الرقم الذي لم تكتبه سوريا أبداً في اقتصادها لحدّ اليوم؟! وكيف اعتمد على تهمة لا تستند إلى أي دليل على الإطلاق واعتبر أن الصور المزيّفة، التي عُرِضت في الكونغرس، وهو بالتأكيد يعرف أنها مزيفة، كما كان يعرف أن صور كولن باول التي عرضها في مجلس الأمن عن «أسلحة الدمار الشامل العراقية» كانت زائفة: «كاشفاً عن تعاون نووي غير مشروع مع كوريا الشماليّة»؟ والمسألة هنا ليست فقط الإدعاءات المفضوحة كذباً للإدارة الأميركية حول سوريا، بل هي قيام إدارة حكومية رسمية في دولة ديمقراطية بانتهاج أساليب التزييف والكذب والتضليل الممنهجين في كلّ السياسات التي اتبعتها هذه الإدارة والتي انتهت إلى نتائج كارثيّة على حياة الشعوب في العراق وأفغانستان والصومال، وعلى حياة آلاف الناس الآخرين من مناطق مختلفة من العالم، من دون أن تستطيع أيّة من أدوات النظام الديمقراطي أن تردعها. وآخر هؤلاء الضحايا هو الإعلامي السوداني، سامي الحاج مصوّر قناة الجزيرة، والذي اختطفته سلطات إدارة بوش المخابراتية لمدة ست سنوات كابوسيّة من عمره كان يُعامل فيها معاملة لا تليق بالبشر ويتعرّض لأعنف صنوف التعذيب من دون أن توجّه إليه أيّة تهمة على يد رجال المخابرات الأميركية التابعين لإدارة بوش، وبتوجيه مباشر منه، فيما هو يتحدث عن «الحرية» و«الديمقراطية». فبأي حقّ يمكن لقوّة عسكريّة كبرى أن تنشر الأكاذيب والحروب والشرور، وتتجنّى على حياة البشر بالاختطاف واحتجاز الحريّة والتعذيب بدون حساب أو عقاب، وأن تصدّر القوانين التي قادت إلى عنصريّة فاضحة ضدّ العرب والمسلمين بحيثُ أصبح التحدّث باللغة العربيّة في المطارات الدوليّة تهمة يمكن أن تقود صاحبها إلى غوانتانامو، وهو السجن الذي أصبح مرادفاً لديمقراطية بوش كما كان الباستيل رمزاً للأرستقراطية الفرنسية؟ السؤال هو كيف سقطت ديمقراطية الولايات المتحدة والتي كانت تمثّل في ضمائر شعوب العالم تكافؤ الفرص والمساواة، والازدهار الفردي، والتقدّم، في براثن الاستبداد الفردي لبوش ومجموعته، فتحوّلت خلال حكم إدارة واحدة إلى دولة تنشر الحروب والدمار والقمع والتعذيب في أرجاء المعمورة، وأصبحت لغتها الرسمية مدجّجة بالأكاذيب والتضليل والمسرحيّات الإعلاميّة الزائفة التي انكشف أمرها للصادي والداني بحيثُ لم يعد يكترث بها عاقل أو يتناقلها من يحترم ذكاء الآخرين.

وإذا ظنّ أحد أنّ في هذا التقييم نوعاً من المبالغة ليقرأ مذكرات الأميركيين أنفسهم، ومنهم الجنرال ريكاردو سانشيز، الذي قاد القوات الأميركيّة في حربها على العراق خلال العامين 2003-2004 بعنوان: «أكثر حكمة في المعركة: قصّة عسكري، قصّة حياته وخدمته في العراق». وفي مذكراته يروي بالتفصيل كيف (كما يقول هو) كذب رامسفيلد في مذكراته عندما ادّعى أنّه «لم يكن على علم بقضايا جوهريّة في تحريك القوات الأميركيّة في العراق» لأنه لا يمكن أن تتم مثل هذه القضايا بدون علم وزير الدفاع شخصياً. يقول رامسفيلد في مذكراته «إنّ أهم الأخطاء الاستراتيجيّة للحرب على العراق كانت إعادة الانتشار الكبرى للقوّات مباشرة بعد احتلال العراق والسماح لعدد كبير من القوّات بالعودة إلى الولايات المتحدة في شهري أيار وحزيران 2003». ويذكر الجنرال سانشيز أنه بعد نقاش طويل مع رامسفيلد خرج من اللقاء وهو يسأل نفسه: «كيف يمكن لرامسفيلد أن يعتقد أنني أصدّقه، لقد كانت هناك مهرجانات انتصار في منتصف أيار 2003 ورامسفيلد نفسه قد أرسل مذكرات إلى الجنرال فرانك يسأله كيف سيعيد الجنرال انتشار القوات في الكويت. لقد كان وزير الدفاع يعلم والجميع يعلم بخطّة إعادة الانتشار». يقول سانشيز «حين كنتُ في العراق، كنتُ افترض أنّهم لم يقوموا بالتخطيط للمرحلة السادسة. الآن وبعد ثلاث سنوات، أعلم وللمرّة الأولى، أن افتراضي كان خاطئاً وأن الخطّة تضمّنت 12-18 شهراً من الأنشطة في المرحلة السادسة مع انتشار جاد للقوّات. ولكنّ القوات انسحبت مفترضة أنّ الحرب انتهت وأنّ المرحلة السادسة ليست من مهامهم». ويضيف سانشيز: «ذاك القرار هو السبب الأساسيّ لفشل الولايات المتحدة في السنة الأولى في العراق. لا شكّ في ذلك أبداً. وكان من المفترض أن أصدّق أنّه لا وزير الدفاع، ولا أحد أعلى منه، كان على علم بالموضوع، وهذا مستحيل. وفي نفس الوقت تمّ إنفاق مئات المليارات من أموال دافعيّ الضرائب، والأسوأ من ذلك، الكثير من جنودنا جرحوا وأعيقوا وقتلوا بدون سبب وبدون نتيجة. وفي رأيي فإنّ عمل إدارة بوش هذا يرقى إلى العجز الرهيب والإهمال الشنيع لواجباتها». إذا كانت هذه كلمات قائد القوات الأميركيّة التي شنّت الحرب على العراق، فماذا يمكن أن يقول الشعب العراقيّ الذي واجه أقسى كارثة دموية في تاريخه.

إذا كانت «الديمقراطيّة»، التي يشنّون حروبهم المجنونة باسمها، تتضمّن كلّ هذا القدر من الدماء والخداع والاستبداد والزيف الذي لا أساس له من الصحّة على الإطلاق، فكيف يمكن للشعوب المغلوبة على أمرها أن تنحوَ هذا المنحى أو تطمح إلى اتخاذ هذا المسار؟ إنّ الضرر الذي أصاب العراق نتيجة هذه الحرب هائل وكارثيّ، بحيث أصبح مثالاً تتجنّبه الشعوب، ولكنّ الضرر الذي أصاب سمعة ومصداقيّة الولايات المتحدة، بل الذي أصاب قضية الحريّة والديمقراطية، هو ضرر أشدّ وأعتى وأبعد أثراً. ولكنّ الغريب هو أنّ البعض ما يزال يتمسّك بالصورة القديمة للولايات المتحدة وديمقراطيتها، ويريد منّا أن نبقيَ على الوهم الأميركي بغضّ الطرف عن كلّ ما ارتكبته ديمقراطية بوش، من جرائم لم يرتكب مثيلها غير عتاة الاستبداد والطغيان، بحقّ سمعة بلدانهم وشعوبهم أولاً، وبحقّ الشعوب الأخرى ثانياً. ألم يحن الأوان الآن أن نتساءل أين أضحت «الديمقراطيّة» التي يدعو إليها بوش في عالم اليوم، وما هي طبيعة القرارات التي تتخذها والأكاذيب التي تبثّها لتبرير عدوانيتها على الشعوب الآمنة؟ إذا كان لا بدّ من إيجاد عبارة تميّز العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فربما تكون «السقوط الأخلاقيّ للإمبراطوريّة الأميركية العسكريّة»، والذي سيتبعه بدون شكّ إزالة الوهم عن وعي الشعوب، وعودة لا بدّ منها للقيم الأخلاقيّة والأصول السياسيّة السليمة التي تعبّر عن مصالح البشر وتحاول الارتقاء بمستوى عيشهم، لا أن تجلب لهم البؤس والدمار والاستبداد والتعذيب والقمع والعنصرية، مدّعية الحرص عليهم وعلى «حريتهم». فالديمقراطيّة لا يمكن أن تكون فقط حقّ الاقتراع مرّة كلّ عدة سنوات، بل لا بدّ أن تكون الطريق لتحسين مستوى حياة الإنسان والحفاظ على كرامته وحرّيته.

www.bouthainashaaban.com