تلويحة الوداع

TT

قبل سنوات كنت مسافراً لوحدي أقود سيارتي في طريق طويل، وبعد أن قطعت من المسافة ما لا يقل عن 400 كيلومتر، توقفت عند إحدى الاستراحات للتريض وتحريك أقدامي، ولأتناول شيئاً يسيراً أسد به رمقي.

وبينما كنت أسير نحو إحدى الطاولات وأنا (أتمغّط) بساعدي وأقدامي، لمحت امرأة شابة جالسة على كرسي في طرف المقهى ومعها طفلتان لا يزيد عمراهما عن خمس وأربع سنوات، ولم أعرها في البداية أي اهتمام حيث انني كنت منشغلاً بنفسي وتحريك أعضائي.

غير أنني بعد أن جلست على الكرسي، وبعد أن ارتاحت أعصابي، وبعد أن أخذت شهيقاً عميقاً وزفيراً أعمق، تناهى لي صوت بكاء، فلما تلفتُّ يمينا ويسارا فإذا به صادر من تلك المرأة، وأشفقت عليها من بكائها الأليم هذا، غير انني تحرجت من سؤالها، فأشرت للطفلة الكبيرة أن تأتي إليّ، ترددت في البداية غير انها أتت أخيراً وسألتها عن سبب بكاء أمها.

فقالت «والدي أوصلنا إلى هنا، وبينما كنا في الحمام انزل أمتعتنا ورحل».

عندها ناديت على العامل في المطعم وطلبت منه أن يأتي للطفلتين بطعام، وفعلا أحضر لهما طبقا من (الشكشوكة) وهو أشبه بالـ(أومليت). واضطررت أن أذهب للأم لأسألها بكل أدب عن مشكلتها، فقالت لي وهي تكفكف دموعها بغطاء رأسها: «زوجي ليس سيئاً لكنه يائس، وحيث انه أصبح لا مورد رزق عندنا، فقد ظن أننا سنلقى المساعدة إن هو تركنا».

قلت لها: «تصرفه هذا ليس فيه ولا ذرة من العقل» وأردفت اسألها: «هل هو يتعاطى» ـ وقبل أن أكمل جملتي ـ أخذت تهز رأسها بعنف، علامة انه كذلك، ثم اخذ نحيبها يرتفع ويتواصل إلى درجة أن كل من كان في المطعم سمع كلام المرأة من سائقي الشاحنات وزبائن آخرين تعاطفوا مع حالتها، تأكدت جازماً أن زوجها يتعاطى ومدمن على المخدرات.

سألتها: «هل لك أهل؟» قالت «نعم إنهم في البلد الفلاني، لكنه يبعد من هنا أكثر من ألف كيلومتر».

ولم تكد تتم كلامها إلا وبرجل ضخم أجش الصوت يأتي برزمة من الأوراق النقدية قائلاً: «لقد جمعت أنا وزملائي ما يكفي لمساعدة السيدة وابنتيها للوصول إلى أهلها».

وذهبت لأدفع ثمن (الشكشوكة) غير أن صاحب المطعم رفض وقال: انه على حساب المطعم.

وأحضرنا سيارة أجرة ودفعنا له مقدماً ثمن الرحلة.

وأخذت المرأة تدعو للجميع، وتشكر الله على أن الخير والمعروف لم ينقطعا بين الناس، وقبل أن تركب مع ابنتيها السيارة، طلبت منها أن تعطيني اسم زوجها لأبلغ عنه، فرفضت وقالت وهي تبكي «لن أعطيك اسمه فهو والد ابنتي وأنا أحبه وأخاف عليه أن يسجن أو يؤذى أو يعاقب، وعندي أمل انه سوف يعود يوماً، فهو يعرف مكان أهلي».

قلت لها: «يا ستي، سيعالجونه، ويحمونه هو من أذية نفسه وأذيتكم». لكنها رفضت، وركبت السيارة وهي تقول: «الله يهديه، الله يهديه».

وأحسست بالحزن والمرارة من مشاهدة تلويحة الوداع نحونا من أيدي الصغيرتين البريئتين.

[email protected]