«طوشة» الشيعة في لبنان

TT

في الستينات اللبنانية، ظهر في لبنان رجل دين شيعي شديد الغموض. كان الرجل ضخم الجثة. بَهِيَّ الطلعة. ويملك قدرة كبيرة على الإقناع والإغراء، على الرغم من عربيته الممزوجة بلكنة فارسية.

كان الشاه آنذاك قد راودته أحلام اليقظة والهيمنة على بحر الخليج وبرِّ الشام والعراق، تماما كتلك الأوهام التي تملأ اليوم رأسي نجاد وخامنه ئي. قيل يومها ان السيد موسى الصدر الآتي من إيران حيث درس في قم، ومن أسرة لبنانية عراقية فارسية، مكلف بمهمة شاهنشاهية: استرداد جيل الوعي السياسي الشيعي الذي افترش قاعدة الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

كما ظهر الصدر فجأة، فقد اختفى فجأة. كان عليه أن يموت في ضيافة ليبيا، وفق مؤامرة عالمية شيوعية فلسطينية ليبية، غضبا عليه لسحبه شباب الطائفة من الأحزاب اليسارية إلى حضن منظمته الطائفية (أمل)، ولمعارضته تورط الطائفة في الحرب اللبنانية التي كانت ليبيا مموِّلة للفلسطينيين واليساريين اللبنانيين فيها.

كان على موسى الصدر (الذي قيل انه نقل ولاءه إلى حضن الخميني) أن يموت قبل أن يرى هدفه الطائفي قد تحقق. في آخر السبعينات، حدث انقلاب هائل في المنطقة: سحبت أميركا كارتر الشاه منهية حلمه الخرافي، ومسلمة إيران، إلى الخميني. كان الكاسب الأكبر هو حافظ الأسد الذي دخل بجيشه لبنان (1976) بحجة إنهاء الحرب الأهلية.

قَلَب الأسد التحالفات، اعتمد الشيعة في لبنان، منهيا حلف سورية التاريخي مع عروبة سنة لبنان، امتدادا لريبته في أشقائهم سنة سورية، في وقت كان الإخوان يخوضون ضد نظامه حرب اغتيالات طائفية في سورية. التورط الاسرائيلي في لبنان (1982) حيّد بندقية الميليشيات الفلسطينية هناك. لكنه ساعد الأسد على تثوير الشيعة وتوريطها في حرب طائفية. حلف الأسد مع الخميني ضد صدام في الحرب الخليجية الأولى خدم ثقة الشيعة اللبنانية به، لا سيما عندما غضَّ الطرف، وسمح لإيران بتأسيس «حزب الله» الذي يأتمر بأمرها.

في لحظة صراحة ومصارحة مع الذات، يقول نبيه بري الشيعي البعثي السابق الذي أصبح وكيل الأسد الأول في لبنان: «أردنا أن نحزِّب الطوائف، فإذا بنا نطيِّف الأحزاب». استخدام الأسد لـ«أمل» نبيه بري في اجتياح مخيمات عرفات في منتصف الثمانينات، منح حزب الله فرصة واسعة للازدهار والانتشار مسيطرا على الطائفة، غير تارك من «أمل» سوى هيكل عظمي، ليس فيه من حياة سوى لسان بري الذرب.

احتال الأسد على ميثاق الطائف (1989). بقي في لبنان إحدى عشرة سنة أخرى. بات منهكا (2000).

اختلت عجلة الوصاية على لبنان في عهد ولديه وضباط طائفته. اضطروا للانسحاب العسكري من لبنان بعد مقتل الحريري الزعيم السني. غير أن سورية بشار لم تتخلّ عن الإرث التحالفي الكبير الذي خلفه الأب وراءه، بما فيه «حزب الله» الإيراني، ومجموعة من أوراق اللعب (الكوتشينة) مسيحية وسنية.

كان لا بد من هذه المراجعة التاريخية لـ«طوشة» الشيعة في لبنان امتدادا لطوشتها في المنطقة. رب نصر أشرف منه الهزيمة. كان ادعاء «النصر الإلهي» في المواجهة مع اسرائيل (2006) كارثة على «حزب الله»، فقد تسبب بمقتل 1200 شيعي في الغارات الاسرائيلية الوحشية، تعزيز الوجود العسكري الدولي في الجنوب، حرم الحزب من الاحتكاك المباشر مع اسرائيل. وبالتالي، دفع بوجوده المسلح شمالا إلى ما وراء نهر الليطاني، بات الحزب أكثر التهاءً وتورطاً في السجال السياسي الطائفي الذي لا ينتهي. بات سلاحه «المقاوم» لإسرائيل أكثر تهديداً للدولة الشرعية، وعبئا ثقيلاً على السنة والدروز والموارنة.

وها هو سلاح «الحزب» يستخدم في تهديد السيادة النظرية الضعيفة للدولة. بل ها هو يجتاح بيروت الغربية (السنية) انطلاقا من ضاحيتها الجنوبية الشيعية، على الرغم من أَيْمان ووعود وعهود حسن حزب الله بعدم استخدام سلاحه ضد الطوائف الأخرى.

لأن الاجتياح الخاطف لم يحقق الهدف السياسي المطلوب: إسقاط حكومة الطوائف الثلاث التي تملك الأغلبية النيابية الشرعية، فقد اضطر الحزب إلى لملمة انفلاته التوسعي والانسحاب، قبل ان تبدأ ضده حرب استنزاف في مدينة كبيرة صعبة المسالك، وقبل أن تمزق الطوائف الثلاث أوصال الحزب وخطوط تموينه اللوجستية بين البقاع والجنوب وضاحية بيروت الجنوبية التي تعتبر عاصمته السياسية المهددة بالقصف من الجبال.

لكن الاجتياح كشف غوغائية حسن حزب الله. منطقه الديماغوجي وذرائعه اللامنطقية أفقدته سريعا شعبيته لدى شارع سني عربي عريض (250 مليونا) ومئات ملايين السنة في العالم الإسلامي. كان الاجتياح الشيعي المدعوم إيرانياً وسورياً سابقة خطيرة يمكن أن تتكرر، طالما ان السلاح باق في يد حزب ليس لمواجهة اسرائيل التي انتهت عمليا بوجود القوات الدولية، وإنما لمحاولة قلب المعادلة السياسية والطائفية في لبنان. وأذكِّر بأن حسن حزب الله في الثمانينات كان متحمساً للغاية لدولة دينية شيعية في لبنان، تحاكي الأنموذج الإيراني تحت هيمنة الفقيه المعصوم.

ما هو الأهم ان لبنان في حضن الهيمنة المسلحة الإيرانية سيفقد دوره المميز كالمنارة الأبرز إلى جانب مصر، للإشعاع الثقافي العربي بكل تعدديته الفلكلورية وحريته النسبية. سيفقد العرب بيروت كمنارة تنير ظلامية الانسداد السياسي والثقافي في مجتمعاتهم.

لقد قدمت حكومة السنيورة نصف تنازل بالرجوع عن قراراتها. بخصوص شبكة التخابر والتجسس الالكترونية التي يديرها حزب الله لحساب ولمصالح إيران في لبنان والمنطقة. لكن الحكومة كانت ماهرة في إلقاء الكرة في ملعب الجيش اللبناني وتحميله المسؤولية.

خلافا للأمر المعلن، أقول ان الجيش في لبنان لم يكن في تاريخ الاستقلال جيش دفاع، وانما جيش الأمن الداخلي. على العماد ميشال سليمان أن تثبت قيادته ذلك مرة ومرارا، كما أثبتت في حرب مخيم نهر البارد. التلكؤ سينال من الثقة الجماعية به لدى الطوائف، كمرشح وحيد للرئاسة. نجاحه أو فشله في «ضبط» طوشة الشيعة سيلقي ظلالا من الثقة أو الريبة في إدارته وسلوكه، إذا ما أصبح رئيسا للجمهورية.

ماذا يفعل لبنان إزاء طوشة الشيعة تحت القيادة القسرية المتسلطة لرجل ديماغوجي خطر كحسن حزب الله؟ أعتقد ان على العرب واللبنانيين مصارحته بالحقيقة: هذه «المقاومة» المزعومة لم تفقد منطق وجودها فحسب، وانما أيضا فقدت مشروعية احتكارها حمل سلاح بات موجها لتهديد أمن وسلام لبنان بكل طوائفه. لا بد من مطالبة إيران والحزب، عبر القضاء، عن كل الخسائر المادية التي لحقت بالبنى الأساسية وبالإعلام اللبناني. مع الأخذ بدعوة «الاعلامات» اللبنانية التي وجهها السنيورة بالكف عن ثقافة الاستفزاز والمبالغة والتحريض.

إذا كانت من نصيحة للعرب فهي توفير المهانة على عمرو موسى في وساطة لا تجدي فيها ملاينته ومجاملاته. لا بد بعد الذي جرى في بيروت من مصارحة إيران بأن العرب لا يمكن أن يقبلوا بخطف لبنان وأسره عسكريا وثقافيا. أيضا، أمام السعودية ومصر فرصة ما زالت سانحة لاجتذاب مزيد من القيادات السياسية والوطنية السنية والمسيحية في لبنان الباقية على الحياد في الصراع، شعورا منها بالغربة والعزلة، ذلك ان هاتين الدولتين الكبيرتين أصبحتا مسؤولتين أمام العرب أمنيا وعسكريا عن استقلال لبنان وعروبته، من كل تهديدات زائفة وفارغة تمارسها الطوشة الشيعية باسم مجاهدة اسرائيل وأميركا.