نهاية «فِتنوية».. لأكذوبة لبنانية جميلة

TT

كان كثيرون يتوقّعون أن تصل الأمور في لبنان إلى حيث هي اليوم.

كثيرون من الذين لم يخدعهم الكلام المعسول والهالات النضالية المزيفة، كانوا يدركون أن البلد سائر نحو مواجهة بين فئة تطمح إلى قيام «الدولة» وترى الخلاص فيها وفي مؤسساتها الدستورية، وفئة لا تعترف أصلاً بتلك «الدولة».. لا هويّةً ولا تركيبةً ولا توجّهاً ولا دوراً ولا مؤسسات.

بين فئة اكتوت مكوّناتها بنار الحرب الأهلية، بعدما جرّبتها فصار هدفها التعايش والتسامح في إطار تعدّدي ومدني وديمقراطي، وفئة مرتبطة بأجهزة أمنية تابعة لأنظمة شمولية خارج الحدود لها حساباتها الخاصة.. كل على قياس أحلامه، وكذلك على قياس أحقاده التاريخية القديمة والحديثة.

بين فئة تفهم أن ممارسة السياسة تقوم على تداول السلطة سلمياً بمعزل عن مشاريع الهيمنة الفئوية والأمنية، وفئة لا تميّز بين ممارسة السياسة وفرض الهيمنة الفئوية الأمنية بقوة السلاح.

من الطبيعي جداً إذاً أن يشهد لبنان ما سبق أن شهده قطاع غزة من «فتنة» انقلابية، وما يشهده اليمن هذه الأيام، وما يهيأ للسودان، وما يعدّ لبعض دول الخليج.

فمعركة سحق «العدو الصهيوني» وتدمير «الامبريالية الأميركية» (طبعاً باستثناء حالة استجداء التفاوض معها) بدأت ولن تتراجع، عناوينها البراقة المعلنة «وحدة المسلمين» و«إسقاط النظام العربي المتخاذل».. كما تطالعنا أدبيات «حزب الله» بفرعه اللبناني والتجمعات «الإسلامية» المرتزقة التي تعيش على فتات مائدته، و«الجهاد الإسلامي» الفلسطيني، وشراذم الديماغوجيين المراهقين من أدعياء اليسار والقومية ورفاقهم، الذين نضجوا فغدوا من أزلام «الأجهزة» الأمنية.

للأسف، ساعدت كثيراً سياسة واشنطن السيئة، في دعم صدقية «الماكينة الدعائية» للقيادة المركزية لهذه المعركة ومقرها طهران، مع أنه من الغرابة بمكان الاستماع لعلمانيين ويساريين عرب وهم يروّجون لنهج يرفضه كل أقرانهم من العلمانيين واليساريين الإيرانيين.

بل والأغرب، تسابق بعض المتشدّقين بشعارات القومية العربية على تنزيه مخطط طهران الجاري تنفيذه إقليمياً من أي نيّات خارج نطاق تحرير فلسطين ودعم الحق العربي فيها، في حين لم تلطّف الهوية الإسلامية الغلو القومي في الشارع الإيراني تجاه هوية الخليج «الفارسي» مثلاً!

في ظل «تقيّة» تخديرية من هذا النوع، لا يعود عسيراً على السيد حسن نصر الله أن يسدل الستار على أجمل أكذوبة عاشها اللبنانيون والعرب خلال العقدين الماضيين.. أكذوبة «المقاومة».

السيد حسن أبدع في خطابه الدرامي الأخير أيّما إبداع في تبريره الانقلاب الميليشياوي الذي نفّذه «حزب الله» في بيروت.

لقد صال السيد وجال، وتألق محرِّضاً ومخوّناً ومتوعِّداً ـ بابتسامته المعهودة ـ وهو يُهدر دم فلان، ويحطّ من قدر علان، ويغيّب تماماً الحقيقة المذهبية البشعة لـ«غزوة بيروت الغربية».

السيد حسن يدرك أن بيروت الغربية ليست غزة، وتركيبة لبنان الفئوية تختلف عن تركيبة غزة، كما يدرك أن وضع «حزب الله» المذهبي في محيطه غير وضع «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في محيطهما.

من هنا ركز السيد في كلامه التمويهي الموجّه، خصيصاً، إلى العرب والمسلمين على التعمية على إقدام الآلة الشيعية القتالية على إخضاع أكبر تجمع سكاني سنّي في لبنان. ومن هنا كان حرصه البالغ على نسف مفاعيل نداء مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني للعالمين العربي والإسلامي، وتكراره تصوير الصراع على أنه بين «الوطنيين» من جميع الفئات ـ الذين يختصرهم في رأيه «حزب الله» ـ و«عملاء أميركا وإسرائيل» الذين يتشكل منهم كل من لا يحظى برضى الحزب و«الولي الفقيه»..

وفي السياق نفسه، ولكن على الصعيد العملي هذه المرة، تبيّن حرص السيد حسن على إسناد المهام القذرة التي يخجل الحزب وسيده أن يوصما بها ـ مع أنهما المحرّضان عليها والدافعان إليها ـ لـ«الأدوات الاستخباراتية» الصغيرة التي أمضى وحزبه، ومن يقف وراءهما، الشهور والسنوات الماضية على شرائها وتدريبها وتسليحها.

إن من نافلة القول أن السيد حسن ما كان ليقدم على فضح ماهية «مقاومته» لولا اطمئنانه إلى أن هذه الأكذوبة الجميلة ما زالت تنطلي على كثيرين في العالمين العربي والإسلامي. ومصدر الأسى هنا مزدوج:

فمن ناحية، انتهت مرحلة كان فيها اللبنانيون على مختلف طوائفهم ومشاربهم يحترمون «المقاومة» ويجلّونها حتى لو كانوا من غير توجهاتها السياسية.. بعدما اكتشفوا أنها استخدمت كغلالةً مشروعها الحقيقي الهيمنة الأحادية لبعض الشيعة.. وبقوة السلاح.

ومن ناحية ثانية، فتحت «غزوة بيروت الغربية» غير الإلهية وتوابعها في مختلف أنحاء لبنان جرحاً طائفياً يصعب أن يندمل، ليس فقط بين الشيعة ـ الذين يصادر «حزب الله» مقدراتهم ـ والسنّة، بل بين الشيعة والدروز الذين يخطط «حزب الله» لتجريمهم جماعةً تمهيداً لتهجيرهم، وبين الشيعة والمسيحيين الذي سعى ويسعى عبر استغلاله ظاهرة على شاكلة ميشال عون إلى شق صفوفهم وإخضاعهم وتصفية نفوذهم.

ما حدث في بيروت، بل في لبنان، اعتباراً من 7 أيار (مايو) الجاري أحدث تغييراً ضخماً في النفوس والقناعات. وهنا كلام السيد صحيح عن أن لبنان ما قبل 7 أيار انتهى، وبدأ في البلد فصل جديد مختلف تماماً.

نعم، ان أي إنسان عاقل يعي اليوم استحالة نشوء نظام ديمقراطي وتطوّر مجتمع مدني متحضر يتساوى مواطنوه بالحقوق والواجبات في ظل سلاح ميليشيا ثيوقراطية قرارتها خارجية وخياراتها خارجية، ولا تتورع عن استخدام هذا السلاح ضد من يفترض أنهم شركاء في الوطن.

.. يستحيل وجود أي إصلاح سياسي، أي نظام انتخابي، أي انتخابات حرة، أي قضاء مستقل، أي حكومة وفاقية، أو أي صيغة تعايش في بلد يحتكر فيه السلاح فريق ديني واحد من لون طائفي واحد، يعتبر نفسه فوق الدولة.. بل فوق مستوى البشر.