بكائية عربية في الذكرى الستين للنكبة

TT

حين تحل الذكرى الستون للنكبة هذا العام تكون غزة قد قضت أياماً غارقة في الظلام بعدما توقفت محطة الكهرباء الرئيسية عن الضخ، ضمن مسلسل القهر والقتل التدريجي الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، وإذ يبدو الأفق الفلسطيني مسدوداً ومجللا بالدماء، فإن المشهد العربي على جملته لا يبدو باعثاً على التفاؤل. فالعراق لا يزال ينزف ومخططات تمزيقه مستمرة على قدم وساق، ولبنان مقبل على مجهول ويخشى أن يجلب له انفجاراً لا يعلم إلا الله مداه. بعدما تدهورت أوضاعه الأمنية خلال هذا الأسبوع، الأمر الذي أدى إلى سقوط 45 قتيلا وعشرات الجرحى، والسودان شهد اختراقاً مثيراً أوصل قوات متمردي دارفور إلى مشارق عاصمته الخرطوم. واليمن دخل حرباً خاصة مع الحوثيين في الشمال في حين يسود الجنوب توتر وقلق استدعيا العديد من الأسئلة حول ملف الوحدة وحساب أرباح وخسائر الجنوبيين منها. والصومال الخاضع للاحتلال الاثيوبي يجري التنكيل بشعبه وعناصر المقاومة فيه طول الوقت.

وفي الوقت الذي تحدث فيه مثل هذه الشروخ والشقوق في جدران البيت العربي الكبير، فإن مختلف القرائن والشواهد تدل على تراجع مؤشر الحريات العامة في أغلب الأقطار العربية على النحو الذي فصلت فيه يوم الأربعاء الماضي.

أذكر أنني حين تحدثت عن أوجه مصادرة حرية التعبير في تلك الأقطار، قلت إنها ليست أزمة إعلاميين بقدر ما إنها من تجليات أزمة الديمقراطية في العالم العربي الذي تغيب عنه قيم المشاركة والمساءلة ولا يكاد يعرف تداول السلطة.

في هذه الأجواء شاركت في مؤتمرين ناقشا الأوضاع الراهنة في العالم العربي. أحدهما دعا إليه مركز الخليج للدراسات بالشارقة وكان موضوع بحثه هو العرب في بيئة أولية متغيرة (7-8/5). أما الثاني فكان المؤتمر القومي العربي الذي عقد في صنعاء في الفترة ما بين ( 9 و 12 / 5). كان المؤتمر الأول هو الثامن الذي تقيمه دار الخليج، أما الثاني فكان التاسع عشر في دورات المؤتمر القومي. ولأن كلا منهما يحضره عدد من المثقفين الوطنيين من أقصى العالم العربي إلى أقصاه فإن المناقشات التي تدور فيهما تقدم تشريحاً دقيقاً للواقع العربي وتحليلا لاحتمالاته المستقبلية. صحيح أن هذه المؤتمرات لا تحل شيئاً ولا تربط بسبب الفجوة الحاصلة بين المعرفة والسياسة في العالم العربي، إلا أنها في حدها الأدنى توفر لتلك الشريحة الواسعة من المثقفين فهماً أفضل للواقع وإدراكاً أعمق لملابساته، إضافة إلى أنها تقيم تواصلا مستمرا بين المثقفين الوطنيين في مختلف الأقطار.

لا يتسع المقام لاستعراض الأفكار التي طرحت في المؤتمرين، لكنني سأحاول أن أعرض لاتجاهاتها وأبرز ما جاء فيها. فمؤتمر الشارقة تعرض للمتغيرات الدولية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. ورغم أهمية ما قيل في هذه الدوائر الثلاث، إلا أن ما قدم في موضوع المتغيرات السياسية أثار اهتماماً خاصاً، فقد تحدث المحلل السياسي الأستاذ جميل مطر عن مجمل المتغيرات الحاصلة في العالم، ونصيب العرب منها. كما عرض الدكتور علي الجرباوي أستاذ العلوم السياسية بجامعة بيرزيت لتأثير متغيرات البيئة الدولية على الصراع العربي الإسرائيلي.

جميل مطر رصد متغيرات كثيرة في موازين القوى العالمية سواء في موقف الولايات المتحدة في أوروبا، أو في موقف الصين والهند وروسيا والبرازيل. وخلص إلى أنه لا تغير يمكن توقعه في العالم العربي، وإذا حدث ذلك التغير فإنه سيكون ببطء شديد. وفي رأيه أن الولايات المتحدة الأمريكية يحظى تراجع مكانتها الدولية بما يشبه الإجماع خارج المنطقة العربية، ولكنها ما زالت تتعامل مع الأمة العربية شعوباً وحكومات باعتبارها الدولة الأعظم التي تزايدت هيمنتها ونفوذها على العالم بأسره، وفي الوقت ذاته فإن حكومات الدول العربية مازالت تتعامل مع الولايات المتحدة من المنطلق نفسه، الذي يتصور أنها ما زالت العقدة الأعظم المهيمنة على مقدرات العالم. وما زالت تلك الدول غير مبالية بالخرائط الجديدة التي تتحرك في العالم، موحية بأن ثمة دولا أخرى صاعدة، يمكن أن تحد من تلك الهيمنة في الحاضر والمستقبل.

الدكتور على الجرباوي كان أكثر حدة في نقده للموقف العربي لأن ورقته ركزت على تأثير المتغيرات على الصراع العربي الإسرائيلي. ومما قاله أن تفرد الولايات المتحدة بصدارة المشهد الدولي كان يمكن أن يطمئن إسرائيل ويجعلها تستكين مطمئنة إلى دور واشنطن، ولكن الذي حدث كان العكس؛ فمنذ قامت بتوقيع اتفاق أوسلو فإنها قامت بتسويق نفسها في العديد من العواصم التي كانت غير مرحبة بها، مثل بكين ونيودلهي، وما زالت تواصل تحركها في أنحاء المعمورة. أما الدول العربية فإنها لم تفعل شيئاً، إذ تحرت كل دولة مصلحتها الخاصة، ولم نجد أحدا مشغولا بالمصلحة القومية العربية مما أعطى انطباعاً بأنهم أصبحوا يعتبرون تلك المصلحة عبئا وليست واجبا عليهم، إذ خلال قرن من الزمان لم يستطيع العرب والفلسطينيون استنهاض وتجميع إمكانياتهم لإيجاد حل للقضية الفلسطينية. واتسم الموقف العربي إزاء تلك القضية بثلاث سمات هي: ضعف التنسيق العربي وبقاؤه في حده الأدنى المطلوب، الأمر الذي استصحب تعزيزاً للقطرية وتراجعاً لأولوية القضايا القومية ـ تسليم معظم الدول العربية بالأمر الواقع والنظام الدولي خصوصاً بعد انتهاء ثنائية القطبية الدولية، بحيث أصبحت الإرادة الأمريكية هي القدر والإرادة التي لا ترد ـ تسليم العرب بنهاية التاريخ مع أمريكا سلبهم إرادة الفعل والقدرة عليه، الأمر الذي أطلق يد إسرائيل في العالم العربي من دون كابح أو رادع.

مما لاحظه الدكتور الجرباوي أن كل ما كتب ويقال حول تغير البيئة الدولية وصعود قوى جديدة آسيوية وأمريكية لاتينية على المسرح الدولي، لا يشير من قريب أو بعيد إلى المنطقة العربية، وكأنها تقف خارج التاريخ، وكأن العرب والأفارقة هم مستضعفو العالم في القرن الواحد والعشرين. وفي رأيه أن خروج العرب من مأزقهم له أربعة شروط هي: أن يتصرفوا كعرب وليس كشعوب قطرية متصارعة أو متنافسة، وذلك لن يتأتى إلا في ظل إرادة للتوحد وتوطيد العلاقات العربية في مختلف المجالات ـ أن يقيموا مجتمعات ديمقراطية تعبر أنظمتها عن تطلعات شعوبها وأشواقهم ـ أن يكف العرب عن المراهنة على الولايات المتحدة وحدها، عن طريق توسيع شبكة علاقاتهم ومصالحهم مع مختلف دول العالم الصاعدة ـ على العرب تجنب استمرار استجداء تسوية سياسية مع إسرائيل، لأنها لا تريد ولا تجد أي عنصر ضاغط عليها لكي تتوصل إلى تسوية سياسية سلمية مع العرب، فالمبادرة العربية يجب أن يكون لها سقف زمني، وعلى الفلسطينيين التوقف عن المفاوضات العبثية الجارية، وعوضاً عن حل الدولتين الذي فشل فلماذا لا يتم تبني فكرة الدولة الواحدة التي ترفضها إسرائيل بشكل حاسم.

فصَّلت بعض الشيء فيما ناقشه مؤتمر الشارقة لأنه يكاد يشكل نقطة الاتفاق التي كانت محل إجماع المؤتمر القومي الذي عقد بصنعاء، وعبر عنها تقرير حال الأمة العربية عن العام الماضي، الذي أعده فريق خبراء مركز الدراسات العربية في بيروت، وخلص إلى أن عام 2007 شهد تراجعات ملحوظة في فلسطين ولبنان والعراق، وأن أداء النظام العربي بشقيه الرسمي وغير الرسمي اتسم بالجمود والتدهور خلال ذلك العام، وانحصرت مؤشرات الأمل والتفاؤل التي رصدها التقرير في أمرين أولهما استمرار المقاومة في فلسطين والعراق، وثانيهما إفاقة الجماهير من غفوتها وتحركها للمطالبة بحقوقها في مصر والأردن والكويت بوجه أخص.

مناقشات صنعاء كانت صدى لأزمة الواقع العربي، إذ في حين استأثرت الأوضاع في لبنان والعراق وفلسطين بقسط غير قليل من المناقشات، واعتبر كثيرون أن ما يجري في تلك الأقطار الثلاثة بمثابة تجليات متنوعة لضغوط المخطط الأمريكي والإسرائيلي التي تستمر في إخضاع المنطقة وتطويقها، فإن المتحدثين أجمعوا على أن تلك الأجواء تبرز الحاجة الملحة إلى المشروع النهضوي العربي، الذي يبدأ بإقامة الدولة الديمقراطية المستقلة على المستوى القطري. وقد استمع المؤتمر إلى شهادات متعددة عبرت عن أزمة الديمقراطية في العالم العربي، في حين ندد آخرون بمحاولات تدويل أو تعريب القضايا العربية «لبنان مثلا» وحذر آخرون من انكشاف الأمن القومي العربي وتعرض الوطن العربي لعمليات تفتيت وتمزيق «العراق ولبنان والسودان والصومال»، إضافة إلى التآكل الذي تتعرض له فلسطين في ظل الاستيطان. كما انتقدت أصوات عدة التدخل الإيراني في العراق، معتبرة أن طهران تؤدي دوراً سلبياً هناك، في حين تؤدي دوراً إيجابياً بمساندتها حزب الله في لبنان. وبخصوص دور حزب الله فإن البعض عبروا عن قلقهم إزاء تحوله من حركة مقاومة للدفاع عن لبنان إلى طرف في الاستقطاب الداخلي الحاصل في الساحة اللبنانية. وهي الملاحظة التي أوردها تقرير حال الأمة، الذي أشار إلى أن بعض مقتضيات النفوذ الإقليمي لإيران تصطدم بالمصالح العربية في العراق والبحرين والإمارات.

لقد ظلت أجواء الأزمة بمختلف جوانبها مخيمة على المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام، وتم افتتاحه في إحدى قاعات كلية الشرطة اليمنية، التي علقت على جدرانها ثماني صور كبيرة للرئيس علي عبد الله صالح.