الاستثناء العربي مجددا!

TT

تجدد الحديث عن «الاستثناء العربي» مرة أخرى، وفي مكتبة الإسكندرية هذه المرة، عندما انعقد المؤتمر السنوي لمبادرة الإصلاح العربي وهي شبكة تضم عشرة من مراكز البحوث العربية التي آلت على نفسها دراسة إشكاليات ومعضلات الإصلاح في العالم العربي. وبشكل ما فإن هذه الشبكة هي واحدة من بقايا تلك المرحلة التي كانت فيها قضية الديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي قد ارتفعت إلى أولويات المنطقة العربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي ساد عنها الاعتقاد أنها حدثت نتيجة ما سمي «بالعجز الديمقراطي» العربي. وكان المطلوب في تلك المرحلة هو سد هذا العجز من خلال مدركات محلية بفداحة الحالة الاستبدادية في المنطقة العربية، وضغوط أجنبية اعتقد أصحابها أنه بدون التحول الديمقراطي في العالم العربي فلن يتم الفوز على الإرهاب.

وخلال النقاش الذي جرى في عواصم كثيرة من العالم بزغت فورا مقولة «الاستثناء العربي» التي ذاعت بعد نهاية الحرب الباردة عندما تحولت دول كثيرة في أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا الجنوبية إلى النظام الديمقراطي بينما بقي العالم العربي على حاله. ورغم قسوة التعبير الذي يجعل من العرب مخلوقات خاصة ليس لها كثير في الديمقراطية، فإن المثقفين العرب الذين استهجنوه كانت لهم تعبيرات خاصة أخرى معبرة عنه دارت كلها حول مفهوم «الخصوصية» الذي يبدو أنه لم يعط نفس تأثير الإهانة الذي كان يعطيه تعبير «الاستثناء».

وعلى أي الأحوال فقد اختفى التعبيران «الاستثناء» و«الخصوصية» من الساحات العالمية والعربية بعد تطورات كثيرة جرت على أرض الواقع قادت كلها إلى أن يتعامل الطرفان، العالم والعرب، مع بعضهما البعض كما هم، على أن تترك التفسيرات والتقديرات السياسية للأكاديميين. وكان ذلك هو ما حدث تحديدا في مكتبة الإسكندرية عندما استسلم الأكاديميون العرب، أو معظمهم، لتوصيفات «الاستثناء» و«الخصوصية»، وكان ذلك نوعا من الكسل الأكاديمي والثقافي، فطالما كانت الحالة «خاصة» و«استثنائية» وشاذة فإنها تستبعد فورا من القواعد العامة للتفكير العلمي. وكم كان طريفا للغاية أن يحدث التقاء بين جماعة الليبراليين العرب مع جماعة أخرى من الأصوليين على هذه الطبيعة الاستثنائية للمجتمعات العربية بسبب ما اعتبروه استهدافا للأمة العربية من قبل الاستعمار مرة، والإمبريالية مرة أخرى، وإسرائيل في كل الأوقات. وهكذا صار الاستثناء ليس خاصا بالمجتمعات والدول العربية، بل بالعالم أجمع الذي توجد لديه حالة استثنائية في استهداف وربما كراهية الدنيا كلها لجماعة سياسية بعينها. وما كان أكثر طرافة فهو أن «الاستثناء» الآخر الحاكم للحالة العربية فقد كان المرونة الفائقة والقدرة العالية للحكام العرب ليس فقط على القهر، وإنما أيضا على التعامل مع مواقف متغيرة.

ومع تأمل ما يشبه الإجماع هذا بين جماعة المثقفين والأكاديميين العرب يبدو أنه واحد من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى غياب الديمقراطية عن العالم العربي. فلا يوجد لا في الاستثناء العالمي ما هو استثناء، ولا يوجد في تفرد الحكام العرب ما هو انفراد؛ فقد عرفت كل دول العالم الاستعمار والإمبريالية وأشكال مختلفة من القهر والتقسيم والتفتيت والتخلف الاقتصادي ومع ذلك فإنها، وبسبب طبقتها الثقافية والفكرية والسياسية، كان لديها القدرة والشجاعة على السير في الطريق الديمقراطي. ومنذ «الماجنا كارتا» وحتى الآن، فقد كان الأصل أن النخب الحاكمة كانت تتشبث بالسلطة، وتتلاعب بها وبالجماهير، وكانت تقوم بالقهر والتكيف والمرونة، ولكن تناقضات التطور كانت دوما ضاغطة إلى الدرجة التي تعطي الطبقة الثقافية القدرة على التدخل لتحقيق تصور ممكن للتغيير والانتقال من حالة إلى حالة أخرى أكثر تقدما وديمقراطية وسماحة. تفاصيل ذلك معروفة، ورغم الآلام التي عرفها العالم العربي خلال عصوره الحديثة من القوى الأجنبية المختلفة، فإن العالم العربي في آلامه لم يكن يختلف كثيرا عن الآلام التي عاشتها بقية دول العالم في مراحل كثيرة من التاريخ. وربما كانت المعضلة الكبرى هي أن النخبة الثقافية العربية قد غلبت دوما تلك الحالة من المواجهة مع القوى الأجنبية على عملية تطوير الواقع الموضوعي العربي في بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية لكي تكون مجتمعات أكثر ديمقراطية ورقيا، بل أكثر قدرة على المقاومة والمناعة في مواجهة التحديات الأجنبية. وفي القرن التاسع عشر كان النقاش بين جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده حول هذه النقطة تحديدا حينما كانت قضية الأول هي المواجهة، والثاني هي البناء بالتعليم تحديدا، وهو ما اعتبره الأول «مثبطا» وانهزاميا. وتكرر الأمر مرة أخرى بعد ذلك ما بين مصطفي كامل والحزب الوطني في مصر من جانب، والشيخ محمد عبده وبقية المصلحين المصريين من جانب آخر مع مطلع القرن العشرين. واستمر الحال على ذلك في مصر، وبصور أخرى في بقية العالم العربي، بين حزب الأحرار الدستوريين وحزب الوفد، وبين عدلي يكن وإسماعيل صدقي على جانب، وسعد زغلول ومصطفى النحاس على الجانب الآخر. وعلى مدى القرنين الأخيرين فإنه عندما استحكم التناقض بين المواجهة مع الخارج في إطار القضايا الوطنية المختلفة أو استمرار البناء الداخلي فقد كانت الغلبة، والتعبئة الشعبية، واقعة على جانب المواجهة، وكانت تلك هي أول المفاتيح التي تم استغلالها لتحقيق مركزية السلطة واستبدادها حيث كان الصوت دائما لا يعل على صوت المعركة. وهي «حكمة« لم تكن تقتصر فقط على ما قاله عبد الناصر في مصر بعد هزيمة عام 1967، وإنما استمرت معنا حتى هذه اللحظة عندما يقف حزب الله ومعه طائفة عريضة من المثقفين العرب والساسة العرب واللبنانيين باعتبارهم المعبر الصحيح عن الأمة حتى ولو كان الثمن هو هدم الدولة اللبنانية ذاتها على رؤوس أصحابها. وكان المبرر الأساسي لحركة حماس في انقلابها على السلطة الوطنية الفلسطينية هي أنها غلبت عملية بناء السلطة على عملية التحرير والتي لم تكن حتى تحريرا حقيقيا للأرض والبشر وإنما كانت عمليات انتقامية لشفاء الغليل في الصدور.

«الاستثناء» و«الخصوصية» إذن لم يكونا خاصين بالدول العربية، ولا كانا خاصين بالعالم كله، ولكنهما كانا خاصين باختيارات نخبة سياسية وثقافية وجدتها النخب الحاكمة في الحكم أو في الشارع فرصة للتحكم والسيطرة وتأجيل التطور الديمقراطي العربي حتى تحسم معارك لا يوجد ما يدل على أن أجيالا كاملة سوف تكون قادرة على حسمها في ظل الضعف البنيوي للمجتمعات العربية. وكأن ذلك ليس كافيا لتأجيل التطور الديمقراطي من خلال المواجهة في ظل شروط الضعف؛ فقد تمت إضافة الإيمان الكامل بطبيعة الدولة التدخلية في شؤون الناس سواء بحجة الدفاع عن الأمن القومي المعروفة، أو من خلال إنقاذ الفقراء والمحتاجين ومحدودي الدخل الذين تسببت الدولة العربية في بقائهم على هذا الحال البائس من الأصل. وهكذا فإن الطبقة الثقافية العربية تبدو هي المسؤولة عن الحالة التي وصلت إليها المجتمعات العربية لأنها تخلت عن دورها التاريخي في أن تكون أداة حل التناقضات الناتجة عن التطور الموضوعي للدول والمجتمعات. وطالما تم تأميم هذا التطور طوال الوقت من أجل المواجهة الخارجية أو من أجل الفقراء فقد بات مستحيلا البحث عن خيارات أخرى بما فيها الخيار الديمقراطي. وكان ذلك هو ما جرى في مجتمعات أخرى توالت موجاتها نحو التطور والتقدم الديمقراطي وبقيت مجتمعاتنا على حالها!