بَيْرُوت.. «أنََقَضَتْ غَزْلَها»؟!

TT

«أصواتنا كلها غائرة، حينما نهمس كلنا معاً.. إنها هامدة وخاوية.. أشبه بريح في يبس الحشيش». كتب هذه العبارة مثقفون لبنانيون على جدار مقهى «الجدل البيزنطي». يلفت هذا العنوان، الغريب الأليف، نظرك وأنت تصعد من صخرة الروشة إلى عمق بيروت. تجري في هذا المكان ندوات أسبوعية تعبر عما سيأتي على بَيْرُوت إذا ما تحول «جدلها البيزنطي» إلى جدل النار، وتغور الأصوات إلى حد الخواء. سألت الأديب اسكندر حبش، أحد وجوه تلك الندوات، ما يعني عنوان مقهاكم؟ قال: «حوار بلا نتائج»! وعلق آخر: «نحاول به تأجيل جدل النار والبارود»! وعندما تراقب الإعلام اللبناني، المرئي والمسموع والمقروء، مدى ثلاثة أشهر، سبقت الانفجار حيث خروج التلويح بالقوة إلى بسطها، لا تتمنى سوى الاستمرار في الجدل البيزنطي، وإن يتخلله حريق هنا وأزيز رصاصة هناك، لكن بما لا يسمح بالتوحش!

بَيْرُوت، لرشاقة مساحتها يكاد يُسمع ساكن البحر همس ساكن الجبل، وقس كيف يمزق أحشاءها دوي المدافع والصواريخ! وما ترى جبلاً شاهقاً، وكأن المتنبي يركبه: «على قلق كأن الريح تحتي.. أوجهها جنوباً أو شمالا»، متعامداً مع شاطئ البحر مثلما يتعامدان ببَيْرُوت! لا يدرك الراغبون بحوار القوة قيمة وجمال هذه البلدة، والسبب كما يبدو أنها لا تألف البطولات والشعارات والهتافات بقدر إلفتها للثقافة والفكر والمدى المفتوح. حار المؤرخون في اسمها، فكل الأسماء لها: صنوبرة، امرأة، مفتاح الشرق وزهرته، أم الشرائع وروحها، صاحبة الإله أدونيس، وقيل أطلق عليها أحد أباطرة أوروبا لقب: «الدرة الغالية»، وهي كذلك.

كتب عنها ياقوت الحموي (ت 626هـ): «مدينة مشهورة على ساحل بحر الشام (المتوسط)». وينقل شعراً لخليفة أموي فيها: «ولا والله لا يصبر في البرية الحوتُ.. ألا يا حبذا شخص حَمت لقياه بَيْرُوتُ»(معجم البلدان). وكتب ابن بطوطة (ت 779هـ): «ثم سرنا إلى بَيْرُوت، وهي صغيرة حسنة الأسواق، وجامعها بديع حَسن، ويُجلب منها إلى ديار مصر الفواكه والحديد»(الرحلة). هذا، وما زالت صغيرة حَسنة السوق. لكن، الجدل البيزنطي عبر الإعلام، وصواريخ الكلام النارية، جعل أسواق شارع الحمراء تعلن التخفيضات بعد الأخرى، ولا مشترٍ، وجعلت فنادقها مفتوحة للريح ولا سائح.

بَيْرُوت، وإن مرت عليها الحروب والغزوات عبر البحر، وآخرها (1975 ـ 1990)، وما هي فيه اليوم، بلدة تجارة وسياحة وطبابة، والثلاث لا يألفنَّ الشراسة، بقدر ألفة السلام والتواضع، فلا نفط يتفجر ولاذهب وكبريت أحمر في حجارة جبالها. وهذا ما طُبع عليه البيروتيين خاصة، من غير السياسة وخلط السياسة بالدين، تحس الثقافة مشبعة في الجدران، طبع ونشر بلا رقيب وحسيب. لا يخاف من شرطتها مطلوب من دولته، أو لاجئاً من جَور. كانت بَيْرُوت قبلة للمرضى اليائسين، منذ عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي.

قصدها والدي بعد أن أبلغه أطباء العراق لإرجاء بشفائه من عصيات كوخ، بينما كان المحطون به، بقرية من قُرى أعماق الأهوار، يلحون عليه أن يتشفع لدى السيد حسين، كونه أغضبه، وهذه علته! لكنه، لا يرى في الأئمة والسادة ما يضر وينفع، ولا نافع وضار عنده إلا الله! مع أنه لا ينقطع عن زيارة النجف وكربلاء. عاد من بَيْرُوت معافى ليعيش (55) عاماً أخرى بعد يأس من شفاء. ذهبتُ بعد سبعين عاماً إلى مصح الباشا، في سفح الجبل الحاضن لبَيْرُوت، وقلبت ناظري في أرجائه، واخرجت الصورة اليتيمة التي أخذها والدي أمام واجهة المصح، هي نفسها مع توسع في الاختصاصات، وقيل لي تأسس (1921)! تلك هي بَيْرُوت الأمس واليوم. محافظة على إرثها، ووظيفتها، وسريعة العمران، «يأتيها رزقها رغدا من كل مكان»!

بَيْرُوت، البلدة الصغيرة ما سرها ما جنسها! أن يهتز العالم بأكمله إذا أهتزت؟! ألي موقعها، أم فنها، أم حظوتها وفضلها؟! أشار لي الشيخ الأرمني من على سطح داره على سفح الجبل، وتحتنا البحر ممتداً، وكان له الفضل برؤية «مصح الباشا»: أترى تلك الأضوية المتشابكة! إنها قرىً لمسلمين ومسيحيين ودروز، وغرباء يستملكون ويصبحون من أهل الدار، ولا نسأل ما قومهم، ما دينهم، ما مذهبهم! لدينا نعمة الطبيعة، وكنز البحر! لكن لا أحد يأمن من السياسة! الغرور يركب العقول، والشعارات أهلكتنا! عندها تليت عليه نص الآية (النحل 92)، وقصصت عليه قصة التي «نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ»! فأعجبه المغزى والتشبيه! وما أخطر من ناقضة الغَزْل، وهي امرأة قريشية «كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن، ولا يزال ذلك دأبها» (الطبرسي، مجمع البيان). بيروت التي غَزلت وتباهت بعمران بعد خراب، ألا تعود تنقض غزْلَها!

[email protected]