مشكلة الغلبة

TT

في بيروت مشاهد حزينة كثيرة، أحزنها المشهد الأوسع، صورة المدينة خالية أو مزروعة بالخوف والقلق والمسلحين. كانت بيروت تخشى هذه الساعة منذ عامين لكنها كانت تقنع نفسها بأنها سوف تردها. فهذه المدينة عاشت حروبها على قاعدة قديمة، وهي «لا غالب ولا مغلوب». وكانت واثقة من أن القاعدة لن تخرق. لأن بيروت هي لبنان. ولبنان مجموعة أسر وطوائف وانتماءات وتقاليد ومجتمعات. وقدر هذه المجموعة أن تعيش معاً فوق أرض واحدة وفي ظل نظام تآلفي جامع وعادل، بقدر طاقة البشر على العدل.

لكن الذي حدث يوم الخميس أن فئة غلبت وفئة تعرضت للخسارة. وانتصار الأهل في الأهل هزيمة. جرح القربى لا يندمل إلا على خيبة ولا شيء أثقل من الخيبة في الأهل. غداة السيطرة على بيروت صدرت «الأخبار» بعنوان يقول «المعارضة تحسم في بيروت». ولكن هل كان الحسم هو المطلوب في النزاع القائم بين المعارضة والموالاة، أم التوافق، وهل كان الأفضل هو الحسم بالإكراه أم التوافق بالإكراه؟

بعد حرب 1958 طرح صائب سلام شعارين: «لبنان واحد لا لبنانان» و«لا غالب ولا مغلوب». وكان هو يتزعم الفريق الغالب في الميدان العسكري. لكنه كرجل دولة كان يعرف أنه لا يمكن العودة إلى السلم والنفوس منقسمة والأفئدة متباعدة. ولبنان بلد صغير غير مترام، ما أن تهدأ ناره حتى تتلاقى الوجوه من جديد. لكن الذي حدث في بيروت يومي الخميس والجمعة تجاوز مظاهر وأشكال الحروب المألوفة. وفي الماضي قصف اللبنانيون بعضهم البعض لكنهم لم يغلقوا الصحف والتلفزيونات ولم يحرقوا دورها. وقد كان إغلاق تلفزيون «المستقبل» الجزء الأسوأ من الحرب، رغم أن الحروب الأهلية لا تخضع لقواعد التفاضل وتقصي الحسنات.

لا تنفع الرومانسيات كثيراً في الحروب. وعندما ينزل الملثمون إلى الشوارع يدلف الناس إلى منازلهم ويسكنون. ولكن أيضاً لا تغير الحرب خيار أكثرية الناس، أي التسوية والاتفاق، بل والمصالحة الوطنية بديلا لهذا التحاقد المستمر والمتواصل بلا أي ضوابط وطنية أو أخلاقية. على أن التسوية السياسية تبدو أكثر صعوبة الآن في ظل غلبة السلاح، وأي حوار الآن لا يمكن أن ينزع فكرة الغالب والمغلوب من النفوس. وإلا كيف ننظر إلى مشهد زعماء الموالاة وهم محاصرون في بيوتهم يطوقها الجيش الذي يطوقه المعارضون.