اليمن و«الحوثية» والهاجس الإيراني

TT

ما علاقة المال الطاهر! أو زكاة الخمس التي يتسلمها فقهاء المذهب الشيعي من أتباعهم والذي تقدمه مؤسسات المجتمع الأهلي التابعة لولاية الفقيه للحركات الشيعية التابعة لها في المنطقة العربية بالحروب الدامية في جبال صعدة بين الدولة اليمنية والحركة الحوثية الأصولية الشيعية؟ والتي هدد زعيمها الحالي بعد تفجير أنصاره لمسجد بن سلمان في صعدة الجمعة الماضية، والذي يرتاده بعض عناصر الجيش اليمني بأن الحرب المقبلة لن تكون محصورة في جبال صعدة بل ستشمل اليمن كله، شماله وجنوبه.

في الحرب السابقة، قدم اليمن أدلة واضحة تثبت تلقي الحوثية دعما ماليا كبيرا قادما من إيران. واعترفت المؤسسة الرسمية التابعة لولاية الفقيه أن الدعم الذي تحصل عليه الحركة الحوثية قادم من مؤسسات المجتمع الأهلي التابعة للمراجع الشيعية. ورغم الوعود الرسمية الإيرانية في محاصرة تدفق الأموال إلا أن تمرير الأموال عبر المراجع الشيعية والجمعيات الإيرانية والعربية التابعة لولاية الفقيه في المنطقة ما زال يمثل الوقود الذي يشعل سماء اليمن مطرا من دماء. بادئ ذي بدء، على الرغم من ان المذهب الزيدي أقرب المذاهب إلى أهل السنة إلا أن فرقة زيدية تسمى الجارودية تقدم رؤية دينية زيدية متطرفة، هي أقرب إلى العقائد الاثنى عشرية فيما يخص موقفها من تفسير التاريخ الإسلامي، وظلت هذه الفرقة تعيد إنتاج نفسها في جبال صعدة ومناطقها المعزولة بعد قيام الثورة اليمنية عام 1962.

وبعد تحقيق الوحدة اليمنية التي قرنت بالتعددية السياسية حاولت القوى الزيدية الشابة مدعومة من مراجع دينية تقليدية منفتحة أن تؤدلج المذهب مجاراة للقوى السنية الاسلاموية وعملت جادة على إعادة بعث الحياة في عقائد المذهب وتجديد مواقفه ليتواءم مع التحولات السياسية المعاصرة ولكن طبيعة الحراك السياسي حولت المذهب إلى أداة في الصراع على السلطة والثروة ونتيجة فشل النخبة الممثلة للمذهب في السباقات الديمقراطية وشعورها بالحصار نتيجة ضعف الاستجابة الشعبية لمقولاتها في ظل واقع جديد يمقت التحرك المذهبي، فقد دفع ذلك حسين الحوثي وبعض رفاقه إلى العودة إلى مواقعهم في جبال صعدة.

إلى ذلك، استطاعت بعض القوى المتحالفة مع النظام وبعد فك الارتباط بين الإخوان المسلمين والنظام إقناع الحاكم بدعم حسين الحوثي وتنظيمه «الشباب المؤمن»، واستطاع حسين الحوثي عبر الأنشطة الثقافية والتعبوية الواسعة في المراكز التعليمية والمعسكرات الصيفية ان يفرض هيمنته على محافظة صعدة. كما تمكن أيضا من بناء اختراق مؤسسات الدولة وبناء خلايا في الوسط الزيدي الشاب والباحث عن وجوده الطائفي بعد أن خسر المذهب كثيرا في جمهورية رأت في المذهبية قوة مدمرة لشرعيتها الثورية.

ومن جبال صعده، قدم حسين الحوثي، مؤسس الحركة الحوثية والذي قضى نحبه في المواجهات مع الدولة، قراءة عقيدية مؤدلجة للواقع السياسي في بعده المحلي والإقليمي والدولي، فالنظام السياسي غير شرعي وممثل للإرادة الأمريكية، والقوى الإقليمية تابعة لأمريكا وتهدد وجودهم الفكري والمذهبي، والغرب عدو مسيطر على الأمة، وهذا الفكر رغم استناده إلى رؤية عقدية زيدية متطرفة إلا أن أبعادا ثورية وعقائد اثنى عشرية بدأت تظهر بشكل واضح في الخطاب الآيديولوجي للحركة.

وبدأت مواجهة الحركة مع النظام بترديد شعارات الثورة الإيرانية وشعارات حزب الله في مساجد صعدة ومساجد العاصمة اليمنية صنعاء وبعض المساجد في المحافظات التي فيها جماعات زيدية متشددة، وهي هتافات معادية لأمريكا وإسرائيل، حاول النظام ضبط إيقاع الحركة فانفجر الصراع بين الطرفين. وأثناء الصراع المسلح اعتبر البعض الحوثية حركة ثورية لها مطالب اجتماعية وسياسية في مواجه نظام فاسد والبعض اعتبرها حركة فكرية تدافع عن نفسها من اكتساح فكر ديني مناهض لرؤيتها المذهبية، ولكن متابعة سلوك الحركة الحوثية بشكل عام وأسلوب عملها وحركتها ونتاجها الفكري، نجد أن أهدافها وآيديولوجيتها السياسية تتوافق مع فلسفة تصدير الثورة الإيرانية، ومنسجمة مع الإستراتيجية الإيرانية التي تهدف إلى تدعيم وبناء حركات شيعية تابعة للولي الفقيه وظيفتها تحقيق مصالح دولة الإمام الغائب وأداة لحماية الثورة من أعدائها.

وما يؤكد ارتباط الحركة الحوثية بالإستراتيجية الثورية لولاية الفقيه أن الهدف الجوهري للحركة هو إنهاك النظام السياسي وإبعاده عن وظائفه الأساسية في خدمة المجتمع وتوجيه طاقاته في الحروب المتقطعة لا بهدف إسقاطه بل إضعافه والعمل على تخويف وإرهاب أنصاره ومؤيديه ودفعه لسحب قواته من المناطق الداخلية إلى المركز حتى تخلو الإطراف من قوة الدولة وهنا يخلو الجو لكي تعمل الحركة على نشر المذهب والآيديولوجية السياسية وتوسيع قاعدتها لتصبح قوة ضاربة بحيث يصبح النظام عاجزا عن مواجهتها، وبالتالي القبول بها والسماح لها بالعمل في أي مكان من البلاد. أما الهدف الثاني من مواجهة الدولة فهو إفراز حالة استقطاب طائفي قوية داخل المجتمع اليمني من خلال مواجهة الدولة واستعداء المذاهب الأخرى ودفع الجميع لاستعداء مؤيديها والمتعاطفين معها مما يسهل لفرز طائفي يسهم في تحويل رموز الحركة وفكرها إلى نماذج مدافعة عن المذهب وعن المتشيعين لآل البيت وقوة في وجه الظالمين في الداخل والخارج.

الجدير بالملاحظة أن الحوثية خلال صراعها المسلح مع الدولة، وحتى اللحظة لم تقدم مطالب سياسية واضحة باستثناء استعدادها الدائم لمواجهة النظام وإنهاكه والدفع به خارج مناطق وجودها والمطالبة بالسماح لها بالعمل الثقافي والفكري والمطالبة بمحاصرة أعدائها من المذاهب الأخرى. كما أن الحركة أيضا لا تهتم ببناء دولة يمنية دينية كما يعتقد البعض ولكنها تعمل من أجل دولة يمنية ضعيفة وهشة ومجتمع مفتت بما يسمح لها بتكوين قوة موازية للدولة قادرة على السيطرة على مناطق نفوذها وعلى بناء قوة مؤثرة في المراكز الحضرية.

الحركة الحوثية لا علاقة لها بالفكر الإمامي المعادي للجمهورية ولا بالقوى الوطنية الزيدية المعارضة للنظام السياسي رغم ذكائها وقدرتها على تحريك جزء من تلك القوى في خدمة إستراتيجيتها، وهذا سهل لها إحداث تغييرات فكرية وعقدية لدى القوى الضعيفة والساذجة داخل المذهب الزيدي لصالح اتجاهات عقدية آيديولوجية خمينية.

وعليه، فإن الهدف المرحلي للحوثية هو بناء قوة طائفية حزبية قوية ومتماسكة مسيطرة على منطقة صعدة وما جاورها وبناء نفوذ قوى في منظومة الحكم بحيث تكون مؤثرة على خيارات النظام السياسي، أما السيطرة على الدولة كليا فليس في أجندة الحركة على الأقل في المدى المنظور لاستحالة ذلك بحكم تركيبة وطبيعة الدولة والمجتمع في اليمن، ويمثل انفصال اليمن الشمالي عن جنوبه بوابة الحركة للاستحواذ على الحكم في اليمن الشمالي. الجدير بالذكر أن فشل الوساطات المتلاحقة والتي آخرها الوساطة القطرية، والتي يرى البعض أنها مقترح إيراني بعد أن كادت الدولة تقضي على الحركة يعود إلى إصرار الحوثية على تحقيق إستراتيجيتها من جهة ومن جهة أخرى نتيجة إصرار الدولة على فرض سيطرتها ومقاومتها لكل المحاولات التي يمكن ان تؤثر على هيبة الدولة.

مشكلة الحوثية أثرت كثيرا على التنمية لأن موارد الدولة تتجه نحو المؤسسة العسكرية والأمنية. وأثرت أيضا على السلم الاجتماعي والاندماج الوطني فالصراع ذو الأبعاد المذهبية يفقد المجتمع حيويته وقيمه الحديثة. وتتحول المذهبية إلى قوة سياسية لتصبح الدولة غنيمة يتم توزيعها بين الفرقاء في حالة اتفاقهم، وهذا أمر مستبعد في اليمن والمعقول صراع قذر على الهوية يجعل من اليمن غابة تتصارع فيه الطوائف، وهذا يفتت الوحدة الوطنية ويدخل أبناء اليمن في صراعات داخلية وخارجية تهدد مستقبلهم ومستقبل المنطقة.

هذا ما يجعلنا نرى أن تصدير آيديولوجية إيران الدينية والسياسية إلى اليمن عبر المؤسسات الأهلية والتي بطبيعتها مرتبطة بالولي الفقيه (مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية) وصاحب القول الفصل في شؤون الدولة والمجتمع يمثل إعلان حرب من قبل الثورة الإيرانية على الدولة والمجتمع في اليمن، وبالتالي فالعدو الأول يقبع في إيران الذي اخترق المجتمع اليمني بتوظيف المال الطاهر! من أجل تشييع جزء من أبناء اليمن لتحقيق إستراتيجية دولة ولي الفقيه الإيرانية.

* كاتب يمني