هل نعلن الحرب درءاً للفتنة؟

TT

كما كنا نرتجف خوفاً من القذائف والصواريخ ويدارينا أهلنا بأحضانهم من حمّى الرصاص الطائش، ها نحن تصطك أسناننا رعباً على أولادنا ونلفهم بأذرعنا الواجفة علّنا نقيهم من نيران تائهة، قد تستقر في أبدانهم الغضة. المشاهد التلفزيونية هي ذاتها أيضاً، المقاتلون الملثمون الهائجون يجوبون الشوارع بأسلحتهم، وأهل عزّل يستصرخونهم الرأفة، ولا من مستجيب. الهلع هذا نعرفه.. الركض في الشوارع عند رشق الرصاص، زمامير السيارات التي تحمل الجرحى عاجلة إلى مستشفى ينقذهم أو ينبذهم، سيارات الإطفاء المجنونة تستعجل الوصول إلى محاصرين بجنون القصف. هاجس الخبز والماء وتأمين الشموع التي وحدها تستطيع ان تنير ليلنا الطويل. حياة ظننا أننا طويناها تعود بمفرداتها ذاتها، بوجوهها نفسها. أيعقل... حتى أبطال هذا الفيلم اللبناني الطويل لم يتغيروا؟ كانوا يقولون لنا عام 1975 أننا محاصرون بين مشروعين، مشروع منظمة التحرير الفلسطينية الذي يعتقد أن طريق القدس تمر من بيروت، والمشروع الصهيوني الذي يريد أن يغير هوية المنطقة، وعلينا أن نقاومه ولو بأجسادنا العارية. لم تتغير الأسطوانة المشروخة، ها هم زعماء لبنان يتناوبون على الميكروفونات منذ شهور، جوعى للكلام وتقاذف التهم، ويؤكدون لنا أن علينا أن نختار بين المشروع الإيراني الذي يريد أن يخطفنا والمشروع الصهيوني الأميركي الذي يسعى لتهويدنا وتدمير مقاومتنا. ويتمترس الشعب المتحمس، كل خلف مشروعه «المفضل» الذي يظنه واقياً له من الاندثار. وفي زواريب المشاريع وعلى أوتوستراداتها مات مئات الآف من اللبنانيين، غير الجرحى والمفقودين، وما يزال كثيرون يظنون ان الاستشهاد على قارعة الطرقات قدرهم، ونحر إخوانهم في الوطن فرض عين عليهم. ولكن ماذا تعمل هذه الزعامات التي تتوارثنا أباً عن جد، إن لم تكن قادرة على تجنيبنا الشواء على مواقد المشاريع الإقليمية؟ ما هي وظيفتها؟ هذا سؤال برسمهم جميعاً، موالاة ومعارضة، خاصة أن عدداً لا بأس به منهم ـ ومن الطرفين ـ لا يحق له ـ بحسب القانون اللبناني ـ أن يتسلم منصب حاجب على باب وزارة بسبب سجله الدموي القاني. لكن العفو العام أنقذهم، وبدل ان يجلسوا في بيوتهم خجلاً، عاد زعماء القبائل والطوائف وقادة الميليشات إلى مواقعهم القيادية سالمين، على جثث القتلى، وبصناديق الاقتراع، وأصوات ابناء الضحايا ومحمولين على أكتافهم ايضاً. لا يستطيع مواطن عاقل، أن يفهم لماذا لم تتراجع الحكومة بسرعة عن القرارين النحسين اللذين كانا حجة أو سبباً ـ لا فرق ـ لجهنم هذه التي تكوينا، مع انها تعلم علم اليقين ان تنفيذهما أبعد من المستحيل. ولا يمكن لصاحب فطنة أيضاً أن يدرك معنى هذا العصيان المدني لحزب الله الذي يرمي الزبالة في طريق المواطنين. نفهم عصياناً بالشموع أو الدموع وربما الورود واليافطات (الله يرحمك يا غاندي)، أما بربرية رمي الحجارة ومستوعبات النفايات في وسط الطرقات، فهذه مهزلة تعفّ رائحتها قوية ونفاذة. سياسة العناد والعناد المتبادل، تكسر الرؤوس، وترجرج العقول. هل يسمع وزراء الحكومة خلف ابواب السرايا، أي هدير حقد تنفجر به النفوس، وإلى أي منزلق تنجرّ العصبيات؟ هل يسمع حزب الله أي مذهبية باتت تسمم الألسن، هل يحتملون حقاً هذا النبش المتبادل لتاريخ عمره 1400 سنة؟ وهل هكذا تقاوم إسرائيل؟ وهل يعلم الطرفان أنهما بسبب تعنت من هنا، وتشدد من هناك، يجعلون أطفال لبنان وشيوخه ونسائه وقوداً لنار ألسنتها بدأت تبتلعهم الواحد تلو الآخر؟

لا لن نصدق أن حزب الله ليس لبنانياً، مهما كان ولاؤه الإيراني والسوري. ولن نصدق أيضاً أن الموالاة باتت تتكلم العبرية والأميركية ونسيت العربية. ولن نقبل كذلك، أن نساق إلى بربرية الاقتتال لخمس عشرة سنة اخرى، تسير فيها الجنازات كالشلالات الهادرة، وتستباح خلالها لا بيروت وحدها، وإنما كل بيت وزاوية وظل شجرة، ليقال لنا بعدها، وبدم بارد ووجه وقح، ان لبنان هذا لا يقسم ولا يجزأ، وأن التوافق قدرنا والعيش المشترك وحده ينقذنا. ويلتقي زعماء القبائل والمذاهب والطوائف حول طاولة بمنتهى البراءة، وكأن شيئاً لم يحصل، يقبل بعضهم بعضاً، ويقول واحدهم للآخر إن لبنان لا يكون ولن يكون إلا تحت سقف شعارهم المفضل: «لا غالب ولا مغلوب». اختصروا الوقت يا إخوان، حكّموا العقل، ووفروا على الأمهات دموعهن وعلى ضمائركم بعض أثقال قد تؤرقكم ما حييتم. أما وأننا نعرفكم، وجربنا لعبتكم العبثية، فعلى اللبنانيين الشرفاء والعقلاء أن يرفضوا مهزلة جرهم إلى اقتتال أخوي، ينتهي دائماً بتبادل القبل، والاعتذارات الرقيقة، والندم المبرقع بدماء الأطفال. ليست التنازلات عيباً الآن، ولا الاتفاق على حلّ وسطي بين المشروعين المتناحرين مستحيلاً. وما دام الكل يؤكد للكل أن إسرائيل عدو مشترك، وسوريا شقيق عربي، فليحكّوا رؤوسهم قليلاً، ولتتفتق قرائحهم عن اتفاق يحفظ ماء الوجوه، وينقذ ما تبقى من بلد وولد.

ما يزال الجيش صامداً والصواريخ من الجهتين تتطاير فوق رأسه، ما يزال هذا الجيش الهش، يحاول ان يتماسك، وما يزال المواطن العادي يحاول أن يسير في الشارع بكرامة، رغم الفقر والنقمة والبؤس. اسألوا الصيدليات تخبركم عن نفاد الأدوية المهدئة التي تستهلك هذه الأيام كالأرغفة الساخنة. ليس صحيحاً ان كرامة أهل بيروت وحدها هي التي أهدرت. فليس من الكرامة ولا العزة في شيء أن تقتل جارك أو ترفع السلاح في وجهه. الكل في بحر المهانة والجوع والقهر واحد. فهل من يسمع؟ وهل من يريد أن يرى أبعد من أرنبة أنفه، قبل أن يسكن في عينيه الحول؟ الله يستر!

[email protected]