لبنان: الشوك والألم وربما الأمل

TT

إن القلب لينفطر حزناً، والنفس لتفزع جزعاً، على ما يجري في لبنان من مآساة تضاف إلى المآسي الكئيبة التي تمزق أمتنا من فلسطين إلى العراق إلى السودان إلى اليمن إلى جيبوتي، وكان الجميع قد دخلوا ـ أو أدخلوا ـ إلى نفق مظلم تسكنه الخفافيش والذئاب منا، ومن خارجنا، وكأنها إضافة إلى نهمها تريد أن تمتحن قدرتنا على أن نكون أو لا نكون، فأوصلتنا إلى مفترقات طرق يبدو أنه من الصعب على البعض منا أن يختار منها ما يؤدي إلى السلامة بينما غوايات كثيرة تتغذى على أطماع وتطلعات كثير منها وهمية تدفعنا إلى طرق وعرة تؤدي إلى الندامة التي لا تنفع عندما تأتي بعد فوات الأوان. وقد حاولت في مناقشة أخيرة في مجلس الشورى المصري أن ألخص موقفي الذي سبق لي أن عبرت عنه في مقالات وأحاديث صحفية وتلفزيونية، والذي لا ينطلق من انحياز لطرف أو لآخر، رغم ما قد يكون لدي من تعاطف مع هذا أو ذاك، لأن الواقعة عندما تقع، والزلزال حين تميد الأرض به، لا يفرق بين الناس ـ أبرياء أو مذنبين، ظالمين أو مظلومين ـ إنما يبتلع الجميع.

قلت أمام المجلس:

إن الأوضاع في لبنان والسودان والعراق، وقبل ذلك كله في فلسطين، تدعو إلى الجزع والأسى، ويجب أن تنبهنا إلى أن الأمور تتطلب دراسة متفحصة ترجع الأحداث إلى أسبابها الحقيقية. إننا إذ نأسف للوضع المأساوي في لبنان، يجب أن ندرك أنه ليس هناك أبرياء براءة الذئب من دم يعقوب، بل الكل مذنبون وأن اختلفت درجة الذنب، وخاصة أن هناك حلاً هو المبادرة العربية، وجهود حقيقية يبذلها الأمين العام لجامعة الدول العربية يجب تفعيلها، ومساع من مصر ودول أخرى يمكن أن تساعد في الخروج من الأزمة.

والمطلوب من اللبنانيين أن يدركوا أن مبدأ لا غالب ولا مغلوب هو مبدأ أساسي، وأن الوطن يجب ألا يعاني من أطماع وطموحات وتطلعات بعيدة عن المصلحة الوطنية والقومية. نريد لبنان المتصالح مع نفسه، ولن يتحقق هذا بحوار القنابل والرصاص، بل بحوار حقيقي نابع من مصلحة لبنان التي تتجاوز الطائفية والتحزب، وتحميه من التدخلات الخارجية على اختلاف أنواعها ومظاهرها ومصادرها الإقليمية أو الدولية».

وقد حاولت في تلك الكلمات، التي حرصت أن تكون هادئة وموضوعية، أن أعبر عن حبي للبنان وأهله كلهم دون استثناء، وشعبه الذي جبل على حب الحياة بما لا يستحق معه أن يكون مسرحاً للدمار الذي يصيب النفوس قبل أن يدمر المنازل والأبدان في حروب يبدو أنه كتب لها أن تكون موسمية أو متكررة، لأن المبادئ التي سبق الاتفاق عليها في الطائف قد طويت وأهيل عليها، وعلى ما أكدته من توازنات، تراب محلي ومستورد يمنع الرئة من أن تتنفس هواءً نقياً، والقلب من أن ينبض نبضات الحياة الطبيعية، والواقع أن مأساة لبنان هي مأساتنا جميعاً، كما أن مأساة فلسطين التي يحتفل الإسرائيليون هذه الأيام بذكرى اغتصابهم لها بينما نتوجع من آثار النكبة القديمة والنكبة الحديثة التي نكاد نجلبها على أنفسنا.. أقول إن مأساة فلسطين تذكرنا بما كان وما كان يجب ألا يكون من مواقف وتصرفات هي أقرب إلى الانتحار البائس اليائس منها إلى أي جهود حقيقية للخروج من اليم الذي يبدو أننا لم نعد نجد فيه فن العوم.

أكتب هذا المقال بينما وفد الجامعة العربية المشكل من رئيس وزراء، ووزراء خارجية، والأمين العام، يستعد للسفر إلى لبنان في محاولة جديدة بعد جهود فشلت، ليس لأنها لم تكن حثيثة ومخلصة ولكن لأنها اصطدمت بما لم يكن يجب أن يكون له وجود من صخور بعضها قديم كان قد آن له أن يختفي وبعضها جديد تراكم بفعل فاعلين فأصبح جبالاً تتمنع على من يحاول صعودها وتكاد تنزلق بالدمار على من يقف تحتها مكتفياً بالتطلع إليها.

لقد شاهدنا في الأيام الأخيرة كيف أن الحكومة اللبنانية تورطت في قرارات لم تحسن توقيتها ولم تحسب حسابات القدرة على تنفيذها، فتراجعت عنها في مشهد تراجيدي كشف ضعفها، وأكد استحالة استمرار الوضع على ما آل إليه. ورأينا المعارضة تتصور أن هذا يومها وأن ضعف الحكومة هو فرصتها مع أن الأمر ليس كذلك، ورأينا السلاح يتحول من العدو الحقيقي والدائم إلى متنافسين على ما تحيله تصرفاتهم جميعاً هباءً منثوراً. ورأينا قوى خارجية تتصور أن خط الدفاع الأول والأهم إزاء ما تتعرض له من ضغوط وأخطار وتهديدات هو لبنان، تهدد بما لا تملك في الواقع بينما المصالحة بين الجميع وهي ممكنة والحفاظ على مصالح الجميع وهو ضروري في إطار تفاهمات تقيهم جميعاً ـ قوى داخلية أو خارجية ـ شروراً سبق أن قلت وقال غيري، إنها لن تترك ولن تذر لأنها ـ إذا حل الظلم ـ لا تفرق بين الناس كبيرهم وصغيرهم، مذنبهم وبريئهم، عابر للحدود أو مستجير بها. فهل ما زال هناك وقت للأمل إذا اقترن بعمل جاد؟ أود أن اعتقد ذلك وقد رأينا أن الجيش بقيادة الرجل الذي توافق الجميع على أن يولوه الرئاسة، يتولى مسؤوليات قيل إنه كان عليه أن يتولاها منذ رحيل الرئيس السابق، ويجب أن تقنن بسرعة حتى لا تصل الأمور إلى تولي الجيش مسؤوليات أكبر وأكثر ديمومة مما هو مفروض ومطلوب. ونحن نعلم جميعاً أن الرئيس المقترح قريب من طرف، ومقبول من الآخر، ما يجعله قادراً على أن يتولى مسؤولياته الدستورية بحيث يكون نقطة التقاء الجميع إذا حسنت النوايا، وتزايدت الضغوط العربية الموحدة التي تنطلق من مبدأ لا غالب ولا مغلوب، فكلهم منهزمون إذا ضاع الوطن، وإذا أظهرت الأمة عجزها عن أن تنتهز هذه المرة الفرصة التي فاتتها مرات في الماضي القريب والبعيد ـ لتثبت أن لها وجوداً حقيقياً وأن لديها الاستعداد لاستخدام قدراتها، لتحسين قدرها (بفتح الدال) ورفع قدرها (بتسكينها).

هل يخطئ من يختار حسن الظن فيتصور ـ أو يحلم ـ بأن اللبنانيين سوف ينتهزون فرصة زيارة بعثة الجامعة العربية لكي يضعوا حداً للمأساة؟ وهل يمكن أن يقترن هذا الجهد بجهد آخر مطلوب، سواء في اتجاه دمشق وطهران، أو في اتجاه دول أوروبية تتحمس أحياناً بغير مقتضى فتزيد الزيت على النار، أو في اتجاه الولايات المتحدة التي كثيراً ما تتحرك بما يصيب بالصدمة لأن ذلك التحرك لا يخدم مصلحة حقيقية لها أو لأصدقائها أو من تدافع عنهم من أهل المنطقة، ولا يخيف من تريد إخافتهم بل يزدادون إصراراً على التصدي فيدفعون بها وبأنفسهم معها إلى دار الهلاك المادي أو المعنوي، مما لا تستفيد منه إلا قوة الشر الحقيقية في المنطقة وهي إسرائيل التي يبدو أنها أيضاً من الخفافيش التي لا يستهويها العيش إلا بين الأنقاض، والتي ما زالت تعرقل بكل ما تملك من إمكانيات، وفي عناد نابع من تدليل واشنطن لها في غير مقتضى، كل محاولة جادة لتحقيق الوعود غير الجادة التي أدعى الرئيس بوش أنها تستهدف إقامة دولة فلسطينية حقيقية يبزغ فجرها مع زوال شمسه التي لم تكن نوراٌ بقدر ما كانت ناراً على شعبه وعلى شعوب أخرى كثيرة دفع بها بسياساته إلى أوضاع متشابكة ومهترئة في نفس الوقت ستحتاج إلى سنوات لفك تشابكاتها ورتق ثقوبها ومعالجة اهترائها إذا كان ذلك ما زال ممكناً.

لقد كنت أريد أن أكتب هذه المرة كما اعتدت كل مرة من دون القدرة على تجنب التكرار عن فلسطين، وأيضاً عن العراق، وعن السودان، لأن عيوننا وقلوبنا يجب ألا تبتعد عن تلك البقاع العزيزة علينا، وجهودنا حتى بالكتابة فقط يجب ألا تضعف عن محاولة دعم جانب الحق والعدل فيها، ولكن المساحة لا تسمح، كما أن لبنان الحبيب فرض نفسه على كل من يتمنون له الخير كل الخير يعم كل ربوعه ويظلل كل أبنائه بدون الانحياز لهذا أو ذاك، أو الانسياق وراء موجات الشجب والتجريم، أو غوايات الانحياز على أساس الهوى.

وبينما أصل إلى نهاية المقال، سمعت بتصريح للرئيس بوش يعترف فيه بأن المعلومات الاستخباراتية التي استند إليها لغزو العراق كانت كاذبة وهو اعتراف لم نكن نتوقعه، ولكنه ما دام قد جاء فقد يكون بداية لكي يفكر الرئيس الأمريكي وزعيم تيار المحافظين الجدد المتعصبين المدمر، في الاعتراف بأخطاء وخطايا أخرى إضافة إلى غزو العراق الذي أدى إلى مقتل آلاف الأمريكيين ومئات الآلاف من العراقين، وتدمير دولة، وهز الاستقرار وفتح أبواب جهنم تمتد نيرانها إلى أبعد ما خطط المزورون لعلهم خططوا ودبروا وتآمروا.