حوار عربي ـ إيراني لا حوار سني ـ شيعي

TT

طالب الشيخ محمد حسين فضل الله بإطلاق حوار سني ـ شيعي في لبنان لإخراج البلاد من مأزق الفتنة الطائفية التي يبدو أنها دخلتها في الأيام الأخيرة.

تشكر للشيخ فضل الله هذه الدعوة التي لا نشك في صدقيتها ووجاهتها، بيد ان الرجل على علمه وموقعه في المؤسسة الدينية ليس فاعلا سياسيا في الحلبة اللبنانية وليس جزءا من المشكل القائم.

بل ان الأزمة اللبنانية ليست في الواقع أزمة طائفية على الرغم من ظاهر الأمور، كما هو الحال بالضبط بالنسبة للفتنة المشتعلة في العراق.

قد يبدو هذا الكلام مثيرا واستفزازيا، لان الخطاب السياسي والإعلامي السائد ينضح بنغمة طائفية جلية لا سبيل لإنكارها، بيد ان نظريات التأويل المعاصرة برهنت لنا على ان الخطاب (الايديولوجي على الأخص) يموه ويحجب من حيث يعبر ويبين، وأكدت لنا ان الاستراتيجيات الخطابية هي إحدى الأدوات الفاعلة في الصراع السياسي الذي يخاض بسلطة القول بقدر ما يخاض بسلطة السلاح.

وفي الأزمة اللبنانية الراهنة استراتيجيات خطابية متصادمة توظف قاموسا معجميا كثيفا ومتنوعا يتمحور حول ثنائية المقاومة والشرعية الوطنية. ولقد عُرف إخواننا اللبنانيون بالقدرة على إبداع المفاهيم والمصطلحات والشعارات السياسية وتوظيفها في الصراعات الداخلية، إخراجا للفتنة من بعدها اللفظي العنيف الخام، حتى في أحلك أيام الحرب اللبنانية الطويلة التي عرفتها البلاد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

والواقع ان ما يميز الفتنة المشتعلة راهنا في لبنان عن الحرب المذكورة هو غياب البعد الطائفي في الصدام الحالي الذي يعبر عن مواقع وقوى تتمايز لا من حيث الانتماء الديني او المذهبي وإنما بخلفياتها ومرجعياتها السياسية وأدوارها في قلب المعادلة الإقليمية التي تشكل الساحة اللبنانية إحدى معتركاتها الأساسية. بيد ان هذا التدقيق لا يخفف شيئا من حدة الوضع المشتعل الذي يأخذ شكل اصطفاف ليس بين طوائف دينية او مذهبية وانما بين قوى تستخدم المعطى الطائفي في التعبئة السياسية ضمن منظور الأجندة الإقليمية.

فما يغيب عن الكثيرين هو ان حزب الله اللبناني لا هو بالامتداد للمؤسسة الدينية الشيعية ولا هو الممثل للطائفية الشيعية اللبنانية، بل يمكن القول انه قوض المعادلة التي كانت قائمة في الجنوب اللبناني التي كانت تتنازع التأثير فيه حركة أمل والأحزاب اليسارية القومية.

و الوضع المثير في لبنان هو ان التشكيلات السياسية الشيعية قد أضعفت المؤسسة الدينية وأفقدتها دورها المحوري في النسيج الاجتماعي. فحركة أمل تحولت بعد اختفاء مؤسسها الشيخ موسى الصدر الى حركة سياسية أهلية بدون منظور عقدي او فقهي، وكذلك الحال بالنسبة لحزب الله الذي هو مليشيا مسلحة أكثر مما هو تنظيم ديني او مؤسسة مذهبية.

ولذا يبدو من الواضح ان العلماء الشيعة البارزين في لبنان كانوا على هامش هذه التنظيمات ولم يؤدوا دور المرجعية العلمية الاعتيادي في الوسط الشيعي، فأشهرهم بدون شك الشيخ محمد مهدي شمس الدين لم تكن كلمته مسموعة ولا رأيه مطاعا على الرغم من مكانته العلمية السامية ومن إنتاجه الغزير، وكذا الحال بالنسبة للسيد محمد حسن الأمين، بل بالشيخ فضل الله نفسه، لان الثلاثة لا يتبنون فكرة ولاية الفقيه وليسوا منخرطين في الأجندة الإيرانية.

ليس الوضع بالمختلف كثيرا عن الحالة العراقية، حيث يتعين التمييز بين المؤسسة الدينية والأحزاب الطائفية الموالية لإيران والداعمة للاحتلال التي تحاول دوما استتباع مرجعية النجف.

فالحوار المطلوب اذن ليس حوارا مذهبيا بين السنة والشيعة، فلا مندوحة من الإقرار بان الصراع العقدي الفقهي بين الفئتين خفت حدته، ولم يعد يطرح إشكالات جوهرية، وانما المطلوب هو حوار عربي ـ إيراني صريح ومسؤول بعد ان أصبحت إيران في قلب الأزمات العربية الحادة (في العراق ولبنان وفلسطين).

اذكر إنني حضرت مرة في مدينة الدوحة القطرية عام 1995 الحوار العربي ـ الإيراني المتميز الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية بمشاركة الكثير من المفكرين والسياسيين الإيرانيين، وقد قال لي أوانها سياسي إيراني مخضرم عمل مع الإمام الخميني في بدايات الثورة «ان مشكلة العرب أنهم يصدقون ان المؤسسة الدينية تحكم في إيران، بينما الحقيقة هي أنها المظلة المرجعية للسياسة القومية الثابتة للدولة الفارسية».