شطحة لا بد منها

TT

لي شغف عجيب بالبحث عن كل ما هو قديم (وجميل وقبيح)، في الفن والتاريخ من أجل المقارنة والعلم بالشيء، لا أكثر ولا أقل ـ خصوصاً إذا كان ذلك الشيء (موثقا).وقد بعث لي احدهم بثلاثة مجلدات تحوي أعداد مجلة «المصّور» المصرية منذ إنشائها إلى أوائل الخمسينات الميلادية، فأصبحت أوليها اهتمامي، وأتصفحها كل يوم لمدة ساعة كاملة بعد إفطاري، ولا يمكن أن يخطر على بالكم مقدار السعادة والأسى الذي كان يعتمل بنفسي في تلك الساعة.

ولكي أضرب لكم مثلا بسيطا، فهذا اليوم تصفحت العدد 238 بتاريخ 3 مايو 1929 ووجدت فيه: أن الملك فؤاد قد افتتح (التوسعة) للمحطة الرئيسية لمجاري العاصمة.

وللمعلومية فقط أقول: إن تلك الشبكة من المجاري لم تتوسع بعد ذلك أبداً بعد حركة الضباط ـ آسف أقصد (الزّباط الأحرار) ـ طوال أكثر من ثمانية عشر عاماً، حيث أن حضرات (الزّباط) كانوا في ذلك الوقت منشغلين بتصفية بعضهم بعضا، وبتحرير شعوب العالم ـ ومعاهم الحق ـ إلى أن طفحت المجاري بكل ما فيها.

وفي ذلك العدد: السباق الدولي للزوارق في نهر النيل، افتتاح حديقة مورو، معرض الصحراء الغربية للمزروعات والمصنوعات والمواشي والجياد، افتتاح مستشفى الأميرة فوقية، إنشاء مساكن العمال الجديدة، الحفلة السنوية لبنات المدارس، فرقة رمسيس في طريقها إلى بلاد الشام لتعرض مسرحياتها هناك، بنك مصر يقدم خدماته للمصطافين في الخارج، أحسن رسوم العام للفنانين المصريين، معارض الأزياء بمحلات سليم وسمعان وصيدناوي، وفي نفس العدد أيضاً هناك (روبرتاج) ينتقد كثرة المسافرين للسياحة في الخارج، حيث أن مصر أولى من الدول الأخرى بالأموال الطائلة التي ينفقها المصريون هناك في كل عام، خصوصاً أن لدينا الشواطئ والأماكن السياحية التي يأتي لها السياح من مختلف أنحاء العالم.

وأحدهم يشكو من الزحمة (والترفك) وكثرة السيارات في شوارع العاصمة، ويتندر مستعرضاً إحصائية تقول: انه في الولايات المتحدة توجد سيارة لكل خمسة أفراد، وفي بريطانيا سيارة لكل 41، وفي فرنسا سيارة لكل 137، أما في البلاد الفقيرة كالحبشة فسيارة لكل 91.743، وفي الجزيرة العربية هناك سيارة واحدة (يا دوب) لكل (150.000)، وهذا صحيح، قطعاً صحيح، طبعاً دار الزمان، وتغيرّت وتبدلت الأحوال، ولكل زمان دولة ورجال وظروف وحظوظ.

وأعترف طوعاً وقسراً، بدون أن يجبرني أي أحد، ولست مستعداً على الإطلاق أن أتقبل الإملاء من أي أحد ـ واعترافي هذا (على فكرة) لا يدخل في باب التبرير أو التواضع الزائف ـ لكنها فقط الحقيقة التي تعلو ولا يعلى عليها.

أقول وبالله الرحمن الرحيم: إنه لو لم يكن (النفط) لكانت دول الخليج برمتها تستحق اليوم المساعدات والعون من منظمات الغوث الدولية، وهذا ليس عيباً، لأن الفقر ليس عيباً، أجدادنا عاشوا في حياة الفقر والعوز ما لم يعشه أي شعب على وجه هذه الأرض، كانوا بدون مبالغة في أيام القحط يأكلون الجراد والجلود ولولا الكذب لقلت إنهم يسفوّن التراب، هكذا كانوا في سنة 1929، حينما كانت القاهرة قاهرة حقاً.

لكننا على الأقل ـ أكرر (على الأقل) ـ رغم (الكربشن) ـ استطعنا أن نعمل ونتعلم وننشئ مجتمعاً حضارياً بمساعدة واستغلال المضروب الذي يقال له (النفط)، رغم أن دولا كثيرة في منطقتنا ـ ولا أريد أن أسميها ـ يوجد فيها النفط وغيره من مقومات الحياة والتطور، ولكنهم للأسف (تبطروا) وعميت منهم الأبصار.

لا أدري لماذا أنا شطحت اليوم أكثر من اللازم؟!، أكيد أحد داعي عليّ.

لهذا أشرف لي أن (انطم) ـ أي اسكت.

[email protected]