كسر البيت ولا كسر الرقبة

TT

في مرحلة من مراحل اشتغالي بالصحافة عملت مع مسؤول تحرير «موسوس» يقرأ المادة: خبرا أو تحقيقا أو مقالة أكثر من مرة، ثم يجيزها، ولا تكاد تصل إلى مكتبك حتى يتصل بك طالبا إعادة المادة إليه من جديد، فيقرأها مرة أخرى، متوقفا عند كل كلمة، باحثا عن أي تأويل، وغالبا ما يقتطع كلمة من هنا أو عبارة من هناك، حتى يفقد المادة معناها وترابطها، ولما كان على درجة من العجز المهني بصورة لا تمكنه من ربط الفقرات بعد الحذف، فكنت استثمر هذا العجز ضده، وأنا أطلب منه أن يقوم بإعادة ربط الفقرات بعد عمليات البتر التي قام بها، وكثيرا ما اضطر إلى إخراج منديله لمسح حبات العرق التي تتساقط من جبهته رغم هدير المكيف في مكتبه، وهو يقضي وقتا طويلا في محاولة ترميم ما هدمه «تراكتور» قلمه الأحمر دون جدوى.. وكنت أضيق به، ويضيق بي، فلم أفوت فرصة لإشعاره بجهله من غير أن أستغلها، وقد أحضرت إليه ذات يوم أبياتا من الشعر:

«غاب عن عيني مرادي

وانهمل دمعي صبيب

عز من يسقي فؤادي

عندما غاب الحبيب»

وقلت له هل ترى في هذه الأبيات ما يحول دون نشرها، فحدق، ودقق، وشهق، وزفر، ومسح زجاج نظارته بطرف «شماغه» ثم قال: «إنها من الغزل الفاحش الذي يجب أن لا ينشر، فكيف يسقي الحبيب فؤاد الشاعر؟ وماذا يسقيه على وجه الدقة؟».. حينها انفجرت في وجهه، وأنا أؤكد له أنه أشد بلادة من «المكتوبجي» أيام الدولة العثمانية، وسردت عليه قصة المطرب المصري عبده الحامولي حينما ذهب إلى الأستانة ليغني في حفل خاص أمام السلطان عبد الحميد، وطلب منه قبل الحفل أن يكتب نص الأغنية التي سيتغنى بها، وما أن قرأ الوزير التركي الشطر الأول حتى هاج وماج، وكاد يلقي بعبده الحامولي في السجن، وحينما استفسر المغني المسكين عن السبب، قيل له إنها أغنية تدعو إلى الثورة، فرد الحامولي في دهشة: «ثورة إيه؟!.. يا خبر أبيض».. وبعد صراخ وشجار فهم الحامولي أن لفظ «مرادي» ممنوع أن يغنى أو يطبع أو يكتب أو يذكر لأن السلطان عبد الحميد على خلاف مع أخيه «مراد» فأصدر فرمانا بمنع ذكر اسم أخيه مراد.. وتوسع «المكتوبجي» بعد ذلك فمنع كل ما يشتق من تلك الكلمة، حينها ضحك الحامولي، وأمسك بقلمه مغيرا كلمة «مرادي» بكلمة «حبيبي»، وهو يردد: ينكسر البيت ولا تنكسر رقابنا.. فاعتراض «المكتوبجي» كان على كلمة «مرادي»، ولم يكن على نوع ما يسقي الحبيب فؤاد حبيبه..

ولم تتحمل اللياقة النفسية لمسؤول التحرير ذاك ضغط الصحافة فجمع أوراقه الخاصة ذات يوم، وخرج ولم يعد.

[email protected]