لبنان:(عودة العقل).. ومتطلباتها في المستقبل

TT

ما ندم إنسان ـ قط ـ، وما ندمت أمة ـ أبدا ـ على موقف انبنى على (العقل). وإنما تأتي الكوارث، وتعم الظلمات، ويحدث الندم القاتل حين يغيب العقل، أو يتضاءل دوره، وحين تقود الموقف والسلوك ـ من ثم ـ (طاقات) أخرى: كالانفعال، والهوى، والغريزة، والتحجر، والغباء، والحمق.

واستدعاء العقل وإعماله بأقصى معدلات ذكائه ورشده هو (المطلب الأول) في لبنان: قبل أي مطلب آخر.

ولقد ابتهجنا ـ في صميم أفئدتنا ـ بـ (عودة العقل) النسبية الى لبنان مساء الخميس الماضي، حيث أعلنت اللجنة العربية عن اتفاق الجميع هناك على العودة الى الحوار في الدوحة ابتداء من أمس الجمعة، وهو اتفاق ذو مقدمات عملية جيدة، تمثلت في إلغاء القرارات المثيرة، وإنهاء المظاهر المسلحة، والعصيان المدني الخ.. وهذه كلها مقدمات أو مضخات تطفئ الحريق الذي اشتعل بجنون، أو (تبرّد الساحة العامة)، وهو أول مطلب أو اقتراح اقترحناه في مقال الأسبوع المنصرم.

ان موجبات تسابق اللبنانيين إلى (العقل) والعقلانية كثيرة ومتنوعة، نصطفي منها ما نحسبه أسبقها وأجداها:

1 ـ موجب (التجربة المرة) التي عاشها اللبنانيون كافة بسبب (الحرب الأهلية) في سبعينات القرن الماضي، الحرب التي لبثت تطحن البلد ـ بمن فيه وما فيه ـ سنين عددا.. والعقل يوجب توظيف عبرة هذه التجربة الماحقة ليس في حماية البلد من الوقوع في مثلها، بل توظيف العبرة في حماية البلد من الاقتراب ـ مجرد اقتراب ـ من ملابسات تلك الحرب ومناخاتها النكدة.

2 ـ موجب (مقتضى الحوار) ومناطه. لقد رأينا جميع اللبنانيين يرددون ـ على مدار الساعة ـ: الحوار.. الحوار.. الحوار. وبدهي ان الحوار (وظيفة عقلانية)، إذ لا حوار ـ البتة ـ بالغرائز واللكمات والأهواء والحماقات والغباوات، فليس يتحاور الناس بالقرون، فهذا خُوار: بضم الخاء (وهو صوت الثور)، وليس حوارا. ولئن كان الحوار وظيفة عقلانية، فمن صميم هذه الوظيفة ان يتأسس الحوار على (أسس متفق عليها)، والى مرجع يُرجع اليه عند الاختلاف، وإلا كيف يصح الحوار؟!

3 ـ من حسن حظ اللبنانيين ـ إذا عقلوا ـ: ان أسس الحوار العقلاني متوافرة (وهذا هو الموجب الثالث). نعم: متوافرة في (وثيقة الطائف) التي ارتضاها اللبنانيون أجمعون.. ومن دلائل العقلانية في هذه الوثيقة:

أ ـ «لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن لجميع أبنائه، وطن واحد، أرضا وشعبا ومؤسسات في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني المعترف به دوليا».

ب ـ «لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها».

ج ـ «لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل».

د ـ «إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني ضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات».

هـ ـ «إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية».

وـ «العمل على تنفيذ سائر القرارات الدولية القاضية بإزالة الاحتلال الاسرائيلي إزالة شاملة، واتخاذ كافة الإجراءات لتحرير جميع الأراضي اللبنانية».

أجل.. من حسن حظ اللبنانيين ان تكون بين أيديهم وثيقة عقلانية سياسية اجتماعية متحضرة مثل هذه.. وليس من الأمانة التاريخية ـ ها هنا ـ، ولا من الضمير والشهادة بالحق: أن تُذكر وثيقة الطائف دون أن يذكر مكانها وراعيها.. فمكانها هو (الطائف) إحدى مدن المملكة العربية السعودية. ففي الطائف اجتمع اللبنانيون وتداولوا حتى توصلوا ـ بعقولهم وإراداتهم الحرة ـ إلى هذه الوثيقة.. وأما الداعي والمضيف والراعي فهو قيادة المملكة العربية السعودية التي هيأت المناخ ـ يومئذ ـ وأعانت أيما عون على أن يبلغ اللبنانيون هذا المبلغ العظيم من النجاح الوطني: العقلي والنفعي.. ومن الأمانة الفكرية والسياسية ـ ها هنا أيضاً ـ تسجيل وتوثيق حقيقتين أخريين: حقيقة الدور الهائل الذي اضطلع به الملك فهد بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في (اتفاق الطائف) وهو دور معروف في التاريخ السياسي المعاصر.. وحقيقة ان (الشقاق) بين اللبنانيين ـ يومئذ ـ كان أعتى وأوسع وأعقد وأكثر غبنا وضغنا ودموية، ولكن (العقل) تفوق على ذلك كله.

4 ـ الموجب العقلي الرابع: توطين النفس ـ لدى الكيانات اللبنانية كافة ـ على تقبل المكاسب (النسبية). فأصحاب العقول الراجحة النيرة من السياسيين المجربين يعلمون ـ ويعملون ـ بمقتضى قاعدة المكاسب النسبية في العمل السياسي.. وهذا عين العقل وثمرته الناضجة، إذ ليس في السياسة (مكاسب مطلقة): إما أن تكسب 100%. وإما (الصفر)!! ومن أصر على هذا الطمع الوهمي فسيبوء بالصفر فحسب.. وهذه هي مأساة كل السياسيين الخائبين في التاريخ البشري: القديم والمعاصر.

5 ـ الموجب الخامس هو الحقيقة التي ذكرناها في مقال الاسبوع الماضي: حقيقة استحالة (الاجتثاث المتبادل) بين اللبنانيين، بمعنى ليس في استطاعة طرف أن يجتث طرفا آخر. وباستحالة الاجتثاث، يتوكد خيار واحد وهو (خيار التعايش) بمحبة أو على كره!.

6 ـ الموجب العقلاني السادس ـ لاستمرار (عودة العقل) إلى لبنان ـ هو: انعقاد الاجماع الوطني اللبناني على (نبذ) التدخلات الخارجية في شؤون لبنان: أيا كان نوع هذا التدخل، وأيا كان بعده أو قربه الجغرافي.. إن معظم مآسي اللبنانيين وبلاياهم أتت من الخارج، وهي بلايا ما كانت لتقع وتفعل فعلها لولا وجود (استعدادات لبنانية) لها: وفق القاعدة العلمية التي تقول: إن كل قوة لا يمكن أن تؤدي فعلها إلا إذا وجدت جهازا قابلا.. من هنا: ليس من العقل ـ قط ـ: أن يجعل اللبنانيون من بلدهم الجميل (منخفضا نفسيا وسياسيا وأمنيا وجغرافيا) تتهافت عليه رياح الصراع والتطاحن والقتال من كل مكان.

7 ـ الموجب العقلاني السابع هو: الاعتبار العميق بخسائر الشقاق الراهن. فهو شقاق أضر بلبنان سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وحضاريا، وهو شقاق طوّل عمره زعماءُ لبنان بدون سبب موضوعي معتبر ومحترم، وليس من شأن العقلاء: أن يطيلوا أمد مآسٍ وأزمات: ليست مستعصية على الحل، ويمكن إنهاؤها في وقت أقصر.

وما دمنا في حقل العقل والعقلانية، فإنه ينبغي طرق قضية أو حكاية (الخلاف السني الشيعي)، فليس من العقل ـ قط ـ: تفجير هذه القنابل التي تشقي حياة الجميع ـ في لبنان وخارج لبنان ـ نعم.. نعم.. وليس من العقل ان يتحول الشيعة والسنة إلى (حيوانات) تحرّش بينها قوى أجنبية معروفة (لها مخطط واضح في هذا الميدان).. بل من العقل والضمير أن يصغي الطرفان إلى نبيهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو (ينهى عن التحريش بين البهائم). فإذا كان العقل والضمير يقضيان بعدم التحريش بين الخرفان ـ مثلا ـ فإنهما يقضيان ـ قبلا ـ بعدم التحريش بين أبناء الملة الواحدة، والقبلة الواحدة. ومن النشاز: ان هناك من يحاول توظيف دولتين كبيرتين ـ هما السعودية وإيران ـ في صراع الدببة هذا.. ومتى؟.. في وقت كان فيه مسؤول سعودي أمني كبير في طهران يبرم اتفاقا أمنيا مع إيران.. وفي وقت وجهت فيه السعودية دعوة إلى شخصية إيرانية لها ثقلها هي علي هاشمي رافسنجاني لحضور مؤتمر إسلامي في مكة سيعقد بعد قليل.

هناك خلافات سياسية بين السنة والشيعة.. نعم.. ولكن (العقل) يوجب أن تكون (المباراة سياسية) محصورة في هذا الملعب فقط.. ومن كان عاقلا مؤمنا بالله واليوم الآخر فليحصرها في هذا الإطار.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعقد العزم على البحث في الأسس المشتركة التي تصلح قاعدة للتعاون على دفع المخاطر المشتركة.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فليقل خيراً أو ليصمت، فإن النفخ في الفتنة المذهبية جهالة، أو غباوة، أو خيانة.