بورما.. مبرر التدخل الليبرالي العسكري لأسباب إنسانية

TT

ديكتاتورية العسكر في بورما سدت اذنيها باصبعيها لنداءات بان ـ كي مون، الأمين العام للامم المتحدة، ومديري وكالات الغوث الدولية، بمنح تأشيرات الدخول للاطباء والممرضات والمتخصصين، ناهيك من تلقي المعونة من العالم الخارجي وإيصال الأدوية والأغذية والبطاطين لمئات آلاف الضحايا، خاصة الاطفال اليتامى الذين فقدوا ذويهم في الاعصار «نرجيس» الذي ضرب البلاد.

فلاش باك 1945 وما بقي من نظام أدولف هتلر محاصر في مخبئه، والجيش الاحمر يتقدم في ضواحي برلين. بدلا من التعامل مع الواقع اختار هتلر نسف الكباري وإغراق أنفاق المترو بلاجئيها نساءً واطفالا ليطيل عمر النظام بضع ساعات.

لقطة من 2008 وعسكر بورما لم يسمحوا بهبوط اول طائرة امريكية تحمل مياه شرب نظيفة وادوية وبطاطين إلا بعد ان قضى المشردون والاطفال اسبوعين في الاوحال تهاجمهم الأوبئة وموجة أمطار جديدة. طائرات الاغاثة التي هبطت، لم يتجاوز ما تحمله اسوار مطار رانغون لرفض العسكر السماح للمتطوعين والاطباء والممرضات من جنسيات مختلفة بالدخول لنقل مياه الشرب النظيفة للمناطق المنكوبة، وترك الامر لجيش بورما.

الجيش يفتقر للامكانيات وسبل النقل، ولذا يتطلب الامر عشرات، وربما مئات، من طائرات الهليكوبتر لايصال ادوية، ومعدات هندسية لاصلاح محطات الري وتنقية المياه ومولدات الكهرباء، ناهيك من الدواء والغذاء والبطاطين وأمصال التطعيم، لان الكوارث الطبيعية تلوث مياه الشرب وتؤدي لانتشار الاوبئة.

ثلاث حاملات طائرات امريكية كانت تبحر قريبا مع سفن اساطيل بلدان اخرى، في انتظار موافقة رانغون على إرسال اسطول هليكوبتر لحمل مئات المتطوعين من مختلف وكالات الغوث الدولية بإشراف الأمم المتحدة. ديكتاتورية العسكر مستمرة في رفض دخول المتطوعين ومصرة على تولي الجيش التوزيع مما ذكرني بالمثل المصري «حاميها حراميها». فالهم الاول للديكتاتورية العسكرية، هو توزيع الأطعمة والمؤن على الجيش الذي يحمي النظام ليحتفظ بقدرته على قهر الشعب.

ثاني الأولويات تأمين الأغذية والمعونة لأجهزة الأمن، واسر ضباط الجيش وموظفي حكومة الانقلاب ومناطق موالية للنظام. وما يبقى من فتات، يذهب للضحايا الحقيقيين، رغم انهم هدف التبرعات والمعونة الموجهة من بقية انحاء العالم الى بورما.

فلاش باك: 1995 مجلس الأمن تبنى قرار بريطانيا «النفط مقابل الدواء والغذاء» لاستثناء بسطاء الشعب العراقي من العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على نظام الديكتاتور الراحل صدام حسين عقب عدوانه على الكويت. سمح القرار بتصدير كميات محددة من البترول العراقي بإشراف الأمم المتحدة، يوجه ثمن بيعها لشراء الادوية والاغذية الضرورية لتوزع على المستشفيات والمدارس والمحتاجين. نظام البعث العربي الاشتراكي، استغل البرنامج لتثبيت دعائمه، والتنكيل بالمعارضين وبطوائف اضطهدها النظام كالتركمان والكلدانيين والاكراد وشيعة الجنوب. وزعت الادوية والاغذية ببطاقات تموين اصدرها النظام لبطانته وأعضاء الحزب ورجال الامن، بينما حرم الشعب منها.

وبينما استصحب قوميسارات البعث كاميرات الفضائيات الغوغائية الى مستشفيات الاطفال، مدعين ان اطفال العراق يعانون بسبب «نقص الادوية» كانت الادوية نفسها التي شحنت للعراق في صناديق مختومة بعلامات برنامج الامم المتحدة، معروضة للبيع في السوق السوداء في صيدليات لبنان بعد ان حملها التجار اللبنانيون الذين عملوا «وسطاء» وسماسرة في البرنامج دون استحياء تغيير اختام الصناديق.

للأسف زملائي من الصحفيين اليساريين هنا في بريطانيا واوروبا اعمتهم كراهيتهم لامريكا عن رؤية اختام الامم المتحدة على صناديق الادوية المسروقة من المرضى العراقيين والمعروضة في صيدليات بيروت حيث يقيم اشهر المراسلين البريطانيين واكثرهم معاداة لأمريكا في تغطيتهم للمنطقة من شرف شققهم؛ فأغفلوا الحقائق ودعوا لرفع العقوبات عن نظام صدام. تعمد الصحفيون العرب القومجية تشويه التقارير باظهار معاناة اطفال العراق في المستشفيات كأنها نتيجة مباشرة للسياستين البريطانية والامريكية، دون ذكر وصول الدواء والغذاء للعراق، ثم سرقة نظام البعث له وبيعه للتجار اللبنانيين.

ونقلة لـ2005 و2006 وسلسلة محاضرات رئيس الوزراء السابق توني بلير مروجاً لمبدأ التدخل الاستباقي الليبرالي Liberal Interventionism لدعم مطالب الشعوب بالحرية وتخليصها من اخطار محدقة، لقيَّ النداء تأييد القوة العظمى الاكبر في العالم وغالبية الشعب الامريكي المعجب ببلير. وصفق محبو الحرية والشعوب المغلوبة على امرها لبلير، خاصة انه سعى لتطبيق المبدأ عمليا بالتدخل عسكريا لحماية مسلمي كوسوفو، ولنصرة بسطاء افغانستان على القاعدة وإحالة نظام البعث الصدامي الى مزبلة التاريخ، والعمل بلا أجر عند اللجنة الرباعية لمساعدة الفلسطينيين لبناء دولتهم.

سؤال اليوم: ألا تعتبر معاناة شعب بورما، برفض الديكتاتورية العسكرية السماح للمجتمع الدولي بإنقاذ حياة ضحايا الاعصار، نموذجا مناسبا للتدخل الليبرالي حسب مبدأ بلير، كضرورة انسانية ملحة لإنقاذ الآلاف من المغلوب على امرهم في بورما؟

المطلوب اليوم تدخل القوى العظمى وإسقاط قواتها الجوية المعونة مباشرة على المناطق المنكوبة، وحمل الاطباء والممرضات ومهندسي الاصلاح ومتطوعي وكالات الغوث بطائرات الهليكوبتر اليها.

باستطاعة امريكا «تعمية» اجهزة رادار بورما وإنذار عسكر رانغون بان التعرض لطائرات الاغاثة، سينجم عنه تدمير دفاعاتهم الجوية وقدراتهم العسكرية.

غطاء الشرعية الدولية لا غنًى عنه حتى لا تتكرر خلافات حرب العراق، فالامر يتطلب تعاونا مع الصين وروسيا حتى لا يستخدما الفيتو ضد استصدار قرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع للتدخل العسكري الانساني، الامر يتطلب نشاطا عاجلا من المحامين الدوليين، خاصة في منظمات الاغاثة، لحسم الامر بشأن تدخل المجتمع الدولي لاسباب انسانية، خاصة أن السفير البريطاني في الامم المتحدة ألقى بشكوك حول عدم تغطية مبدأ التدخل لحماية الشعوب في حالات الكوارث الطبيعية. لكن الأخطار التي يتعرض لها سكان المناطق المنكوبة في بوروما اسبابها سياسية من صنع النظام لأن الاسباب الطبيعية انتهت منذ ثلاثة اسابيع.

حالة بورما هي امتحان لقادة العالم الحر، لأن تقاعسهم يعني أنهم لا يريدون تقديم سابقة تدخل لصالح الشعوب، قد تزعج انظمة «الاستقرار» الصديقة من ديكتاتوريات عسكرية في مناطق استراتيجية كالشرق الاوسط. العالم اليوم ينتظر اجابة المجتمع الدولي عن أسئلة الامتحان.