قليل من الفضفضة وكثير من الصبر

TT

يكفي القليل من الفضفضة تغادر الصدور اللبنانية العابقة بالاحتقانات. فالذي حدث كاد يتسبب في تقطيع الأوصال، ومن هنا فما حدث كان في بعض جوانبه تحذيراً من أمر أعظم، ولا بد ازاء ذلك من الصبر الطيب والكثير.

وما هو أهم من الصبر هو التوجيه بأنه في أي أزمة سياسية لا سلاح يُستعمل ولا صندوق زبالة يُرمى في وسط الشارع ولا دواليب مطاطية تُحرق ولا أتربة تُقطع الطرقات ولا مطار يُغلق بفعل قطْع الطريق اليه ولا مرفأ يصيبه ما اصاب المطار ولا شعارات يُعتدى عليها ولا وسائل إعلام تهدَّد او تتعرض للأذى. والأهم الأهم هو لا علم يُرفع في اي موضع يتم «احتلاله» بقوة السلاح بدلا من علم الوطن، ولا أغراب لهم الحق في تنفيذ اعتداءات وقد غطوا الوجوه بأقنعة او استعملوا غطاء الرأس الفلسطيني لغرض التمويه.

نقول ذلك لأن ما حدث كان دون وجه حق وكان تطاولا على حقوق الآخرين. فالمطار والمرفأ ليسا للحكومة المتسلحة بالتعاطف الدولي معها غير مكترثة بعدم التعاطف من جانب نصف المجتمع اللبناني. والطرقات ليست لها وإنما لكل اللبنانيين. والتعبير عن الغضب من خلال إحراق الدواليب المطاطية إهانة في حق من يتقبل هذا الأسلوب أو يوصي به وكذلك الحال بالنسبة الى رمي صناديق الزبالة في الشوارع وإحراق سيارات وتكسير محلات وإزهاق أرواح. ثم ان أي فرض أمر واقع بقوة السلاح لا يعود حالة احتجاج وانما يصبح عدواناً على الآخرين. وإذا كانت الانتفاضة غير المستحبة التي حدثت في نظر فاعليها بأوامر مستجابة لا مجال للمناقشة فيها لم تُسئ الى شرائح لها تحفظات على السلوك الحكومي ومتفهمة بمقدار لظروف «حزب الله» و«حركة امل»، فإن ردنا على ذلك هو أنها اضرت وتسببت في انحسار ملحوظ للتفهم المشار اليه، وذلك للاعتبار الذي اوردناه وهو أن الذي حصل كان اعتراضاً مسلحاً وليس مجرد تسجيل موقف وكان ضد حقوق مشروعة للمواطن العادي في ان يكون آمناً في بيته مستقراً في عمله غير ذي بال بالنسبة الى شوارع وطرقات مدينته، كثير الارتياح الى ان الامور طبيعية في مطار البلد ومرفأه.

هذا الذي حدث يتطلب المباشرة بعملية تأهيل تقوم على قاعدة أن المواطَنة هي الأساس وليست الطائفة، وان الاحتجاج بالسلاح يصبح عدواناً، ومن أجل ذلك فإن التوجيه بعدم حمله وتحريم استعماله ومن دون اسقاط حق اقتنائه لساعات الغفلة والضرورة القصوى يندرج في عملية التأهيل. وعَلَم البلاد له احترام. وإذا كنا نستنكر أسلوب حرق أعلام دول الآخرين في لحظة غضب فما بالنا بالنسبة الى عَلَم الوطن الذي يجب ألاَ يعلو عَلَم عليه. أما ان يصطفَّ عَلَم هذا الفصيل او ذاك الحزب الى جانب عَلَم البلاد فهذا قابل للتحمل وعلى اساس الاحتماء بهذا العَلَم والتبرك به والتأكيد على احترامه لأنه عَلَم الأجداد والآباء والأبناء وعَلَم وطن الأحفاد والأجيال الآتية.

لقد اخطأت الحكومة السنيورية باستعجالها اصدار قراريْن حول موضوعيْن سكتت عنهما دهراً لتنطق رفضاً لهما وفي ظروف غير مؤاتية لها وللمثلث الباغض لسلوكها، وكان من الأسلم تركهما الى الحوار غير المحسوم أمر انعقاد جلسته، لكن من المؤكد أنه سيبقى وارداً قبل انحسار العاصفة وبعدها. لأنه الشغل الشاغل للرئيس نبيه بري ولأنه موضع القبول من سيد المقاومة حسن نصر الله. وكنا نتمنى ان يكون تعامُل «حزب الله» و«حركة أمل» والحليف المسيحي المعطِّل الجنرال عون مع القراريْن بالأسلوب السياسي وليس الحربي ما دام المناخ الديمقراطي السائد في لبنان يجيز للقوى السياسية الفاعلة، وكذلك لكل من هب ودب لبنانياً كان متلبنناً او غريباً عن ديار ليست له، قول ما يريدون قوله ما دامت الصحافة تنشر من دون تحفُّظ وما دامت الفضائيات تتيح المجال لكل من يريد أن يلعلع، وما دامت حتى الارض اللبنانية ساحة لمن يريد ان يخرّب أو يفخخ او يرفع صوتاً لا مجال لرفعه ولو همساً في بلده.

اما وقد حدث الذي حدث، وخشيَة من الذي سيحدث وسيكون الأخطر والأعظم، فإننا نرى كما بدأنا القول ان الذي حدث كان فضفضة من كل الاطراف وإن كانت غير محسوبة بدقة وغير مراعية للمشاعر والحقوق وعلى حساب الصيغة، فإن الصبر على ما حدث يبدو ضرورياً والكلمة التي تحنّن بدل التي تجنّن أو تزيد المشاعر انفعالا هي المطلوبة، وبحيث لا تبقى فظاعات حدثت من الجانبين خلال خمسة ايام تتحكم بغرائز رموز العمل السياسي بدل التعقّل، لأن الساحة في كل حركة او حزب خلت من حكيم ينصح ومستشار ينبِّه.

ومع الصبر الجميل وكإثبات لحُسن النية، من الأسلم لتنقية السمعة من الشوائب وللرقاب من صدمات وحفاظاً على ماء الوجه بالنسبة الى كبار القوم، اعتبار السعي العربي خشبة انقاذ واعتباره نوعاً من اللهفة من شأنها إبقاء الأمر وطناً ومواطنين بعيدين عن الخط الاحمر، مع الأخذ في الاعتبار أن عدم التجاوب مع هذا السعي يعني ان يأخذ المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن على عاتقه أمر تأديب الجميع ومن خلال قرارات لا تعود فيها «ديمقراطية السلاح» هي السائدة؛ هذا إذا لم يقرر مجلس الأمن استحداث المحكمة الدولية الخاصة بلبنان 2.. أو ما هو أشد تأديباً. والله أعلم.