وعادت بيارق الطائفية..

TT

عندما أُريد أن أُقارن وضع بلد ما، وخاصة إذا كان هذا البلد «ناميا»، فإنني أقارنه غالباً بالهند. فالهند بلد نام حديث، لم ينل استقلاله إلا عام 1947، ورغم أن دولاً كثيرة نالت استقلالها قبل هذا التاريخ، إلا أنها لا تتمتع بدرجة الاستقرار والنمو والديموقراطية التي تتمتع بها الهند، رغم أن الهند كم هائل من البشر يتجاوز المليار إنسان، ورغم أن مساحتها تعادل مساحة قارة كاملة، ورغم أنها تزخر بعشرات الملل والنحل، وينتمي سكانها إلى عشرات الإثنيات أو الأعراق، ورغم ذلك كله فهي أكثر استقراراً من دول استقلت قبلها بكثير، وأصغر منها بكثير، وأقل تعقيداً عرقياً وطائفياً منها بكثير.

الهند اليوم، بكل تعقيداتها الثقافية والعرقية والاجتماعية، تتمتع بنظام سياسي مستقر، وتشق طريقها لأن تُصبح واحدة من أعضاء نادي النُخبة في القرن الحادي والعشرين.

تخطر الهند في البال دائماً، حين التأمل في العديد من دول هذا العالم المضطرب، ولكنها فرضت نفسها هذه الأيام بقوة على الذهن، بعد انفجار الأوضاع في لبنان، ووصول هذا البلد إلى شفير الهاوية، وحافة الحرب الأهلية من جديد. فرضت الهند نفسها على الذهن وذلك لتشابه الأوضاع بين الهند ولبنان في كثير من الأمور، من حيث التعددية الأثنية والطائفية، رغم أن الهند أكثر تعقيداً في هذه المسألة، وفي تبني البلدين للديموقراطية نظاماً سياسياً، ومع ذلك نجد أن الهند أكثر استقراراً، سياسياً واجتماعياً، رغم أن كلا البلدين نال استفلاله في الوقت ذاته تقريباً، لبنان عام 1943، والهند عام 1947. ولبنان في سكانه الأربعة ملايين تقريباً، لا يقارن مع الهند بسكانها الذين تجاوزوا المليار، كما أن مساحة لبنان لا تعادل مساحة ولاية واحدة من ولايات الهند أو مقاطعاتها التي تتجاوز الثمانية والعشرين ولاية ومقاطعة، كما أن الهند ولبنان يتشابهان في التاريخ، من حيث غزوات الخارج، وتغير الحكام والسلالات، والصراع بين الأعراق والطوائف، والتعرض للاستعمار من الخارج. ولكن، رغم التشابه بين الحالتين، وبالرغم من ضخامة الهند وضآلة لبنان، إلا أن لبنان منذ استقلاله، بل ومن قبل استقلاله، يُعاني من شرخ في تكوينه، غالباً ما يؤدي إلى صراعات محلية دورية، وحروب أهلية دورية، لا ينطفئ أوار أحدها، وينعم البلد ببعض الاستقرار النسبي، حتى تُمهد الطريق لصراع قادم جديد.

قبل عدة أيام، كان لبنان على شفير حرب أهلية جديدة في تاريخه، وكان احتراق لبنان سيؤدي إلى احتراق المنطقة بأسرها، ولكن الله وقانا شر فتنة لا نعلم ما كانت ستؤول إليه نتائجها، وها هم اللبنانيون يجتمعون في قطر للوصول إلى نوع من اتفاق وطني. ولكن، وآه من لكن هذه، وعلى افتراض أن فرقاء لبنان توصلوا إلى صيغة معينة من الاتفاق الوطني، وعاد السلم الأهلي إلى الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان، فإلى متى يا ترى من الممكن أن يدوم هذا الاستقرار وذاك السلم؟ لقد علمتنا «أيام اللبنانيين» أن حالة السلم الأهلي في لبنان لا تدوم طويلاً، بالرغم من كل الاتفاقيات والنوايا الحسنة في حينها، لدرجة أن حروب لبنان الأهلية، وصراعات اللبنانيين الداخلية المتفجرة، يمكن دراستها كدورة زمنية تحدث كل ربع قرن على أبعد تقدير، وخمسة عشر عاماً على أقل تقدير، وذلك منذ أن برز اسم لبنان ككيان سياسي مع فخر الدين الثاني، مروراً بالحرب العالمية الأولى وما بعدها، وتكون لبنان الكبير عام 1920، وصولاً إلى أيامنا الحالية. ما هي مشكلة لبنان؟ الهند على تعقيداتها، وطوائفها، وأعراقها، ولغاتها، والتدخل الأجنبي فيها، تسير بخطى حثيثة إلى الدرجات العلا في سلم القوى العالمية، وتحقق أعلى درجات النمو والاستقرار والديموقراطية، وتنصهر كل اختلافاتها وتنوعاتها في جسد واحد هو الجسد الهندي، فيما لبنان، بكل تاريخه العريق وثقافته ومدنيته التي بز فيها كل دول المنطقة في لحظة من الزمان، مازال فسيفسائي التركيب، طائفي الهوى، قبلي الصراع، ممزق الجسد، تتناهشه الولاءات والانتماءات، ويغيب عنه الانتماء للوطن الواحد. ما القصة هنا؟

في ظني أن علة لبنان، واللبنانيون أدرى بحالهم في أية حال، هي الطائفية السياسية التي وثقتها الاتفاقيات الوطنية اللبنانية، المكتوب منها وغير المكتوب، وسواء كان الحديث عن الميثاق الوطني عام 1943، أو اتفاقية الطائف عام 1989، أو ما قد يُسفر عنه اجتماع الدوحة، التي لم تحاول حل مشكلة الطائفية السياسية في لبنان، بقدر ما كانت نوعاً من العلاج المؤقت، أو مهدئات وقتية، مهما طال أمدها، للفسيفسائية الطائفية وتناقضاتها في لبنان. كانت المشكلة الدائمة في لبنان هي كيفية إقامة نوع من التوازن السياسي بين الطوائف اللبنانية، وهو توازن معرض للخلل في كل حين، لأنه يقوم على أسس خاضعة للتغير في كل آن. فالميثاق الوطني الأول، كان اتفاقاً على قيام توازن سياسي معين في لبنان، ولكن المتغيرات الديموغرافية أدت إلى اختلال هذا التوازن مع الزمن، مما أدى إلى تململ بعض الطوائف من موقعها في ذلك التوازن الذي تجاوزته الوقائع، فكانت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، والتي انتهت باتفاقية توازن جديدة هي اتفاقية الطائف عام 1989، التي لم تمس جوهر المشكلة، بقدر ما عالجت قشورها، والتي هي اليوم في مهب الريح، رغم تمسك جميع الفرقاء بها كمرجعية للعلاقات السياسية بين الطوائف.

البحث عن مواقع جديدة في شبكة التوازن الطائفي، هو السبب الرئيس وراء غليان الأوضاع في لبنان خلال الفترة الأخيرة، بل وخلال مختلف الفترات، ومن بعد ذلك تأتي بقية الأسباب، الداخلي منها والخارجي. مشكلة لبنان التي تهدد دوماً بعودة التوتر وانفجار الأوضاع، هي أن الكيان اللبناني قائم على حالة من التوازن السياسي الطائفي غير الثابت، والذي لا يمكن له أن يكون ثابتاً، ولا حل لسلم أهلي دائم في لبنان إلا من خلال علاج مشكلة الطائفية السياسية التي تقف وراء كل اضطراب في لبنان، والتي تسمح لكل الصراعات والأطماع الخارجية أن تجد لها موقعاً فيه، من خلال رعاية هذا الطرف الداخلي أو ذاك، أو التحالف مع هذا الفريق الداخلي أو ذاك، ومن ثم ترك الفرقاء اللبنانيين يُقاتلون حرب الآخرين على أرضهم، في الوقت الذي يُقاتلون فيه من أجل تحسين مواقعهم الطائفية، والثمن في النهاية هو الوطن والانتماء إلى الوطن.

الطائفية السياسية، التي رسختها كافة المواثيق والاتفاقيات اللبنانية، تحدد المواقع السياسية للأفراد والجماعات والأحزاب والتنظيمات، بناءً على الانتماء الطائفي، وليس بناءً على مجرد المواطنة أو الكفاءة البحتة. فلماذا مثلاً يجب أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً، وغير ذلك من مناصب موزعة طائفياً؟ عندما تكون المواطنة والكفاءة فقط هي المعيار، فمن الممكن أن يكون أي مواطن صالحاً لهذا المنصب أو ذاك، دون اعتبار للخلفية الطائفية. صحيح أن الطائفية لن تختفي تماماً، فليس هناك حل سحري أو إعجازي لأي مشكلة، ولكنها ستتحول إلى مشكلة اجتماعية بحتة، كما هو حادث في الكثير من دول العالم الديموقراطية ذات التنوع الإثني والطائفي، ولكن دورها سيضمحل حين لا «توثق» في مواثيق سياسية، تمنحها الشرعية والاستمرارية.

وعود على بدء، نقول إن هذا هو بالتحديد ما يفرق بين الهند ولبنان، وغيرهما من بلدان، في هذه النقطة: الهند ديموقراطية دون طائفية سياسية، بل قائمة على مبدأ المواطنة وحده، من الممكن أن يكون فيها رئيس الجمهورية أو الوزراء أو البرلمان هندوسياً أو مسلماً أو سيخياً أو مسيحياً، ولبنان ديموقراطية مشوهة، قائمة على طائفية سياسية، لا يُمكن فيها أن يكون هذا المنصب أو ذاك إلا لهذه الطائفة أو تلك، فحولت المجتمع إلى قطع غير منصهرة في بوتقة الوطن الواحد، بل هي فسيفساء من الولاءات والانتماءات غير المنسجمة على اختلاف ألوانها. كان لبنان يوصف بأنه سويسرا الشرق، وبيروت بأنها باريس الشرق، ولكن مثل هذا الوصف يجب أن يكون شاملاً للظاهر والباطن معاً كي تكتمل الصورة ويتحقق الوصف، ولا يكون ذلك إلا بإيجاد اللبنانيين حلاً للورم السرطاني الذي ينخر في الجسد اللبناني ونقصد به الطائفية السياسية. بغير ذلك، فلا ميثاق وطني، أو اتفاق طائف، أو اتفاق دوحة قادر على إنقاذ لبنان من نفسه، وستعود دائرة العنف إلى الواجهة كل فترة من الزمان، وأهل مكة في النهاية أدرى بشعابها، وحفظ الله لبنان من شر نفسه وأهله أولاً وقبل أي شيء آخر ..