الأفق الإقليمي لحل أزمة لبنان

TT

لا يمكن لأحد أن ينكر العوامل الداخلية التي تقف وراء الخلاف السياسي المحتدم في لبنان، والذي يشل حركة البلد منذ سنوات. ورغم أهمية هذا الأمل الداخلي، إلا أن الأسبوعين الماضيين دفعا إلى المقدمة بالعمل الإقليمي وبالعامل الدولي، حتى أصبح المسرح أحيانا مقتصرا عليهما. وهنا برز تعارض حاد بين القائلين بان الأزمة اللبنانية تحل بالحوار بين اللبنانيين، وبين القائلين بأن الحل هو بين أيدي القوى الخارجية سواء كانت إقليمية أو دولية. وقد تتابعت الأحداث بطريقة فرضت على اللبنانيين، وعلى جميع الأطراف المتعاملين مع الأزمة اللبنانبة، أن بأخذوا العامل الإقليمي والعامل الدولي بعين الاعتبار. وبدا أحيانا أن العوامل الإقليمية والدولية تعرقل أية وساطة عربية أو غير عربية. وقد جاء تشكيل وفد الوساطة العربية بعد الاجتماع الصاخب للجامعة العربية، معبرا بوضوح عن تعقيد هذا الوضع، فقد تشكل الوفد العربي للوساطة، على قاعدة استنكاف الدول العربية الفاعلة عن التصدي لدور القيادة، فابتعدت السعودية، وابتعدت مصر، وابتعدت سوريا، ولم يكن ممكنا في ظل هذا الابتعاد تكليف عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية بترؤس الوفد العربي، بحيث يكون تكليفه تعبيرا عن توافق العرب على قرار سياسي ما. وكان طبيعيا بعد ذلك أن ينسحب عمرو موسى نحو الظل، وأن تترأس قطر وفد الوساطة، من دون تحديد حتى لمهمته، وكان مزودا فقط برغبة عربية بوقف الاقتتال وسحب المسلحين من الشوارع، تاركين مهمة الحوار والحل معلقة في الهواء.

في مواجهة هذا الوضع العربي الذي يشبه الفراغ، كانت هناك تطورات إقليمية ودولية تندفع لتملأ الفراغ، وبطريقة تجعل ملء الفراغ أداة للتفجير وليس أداة للحل. وكانت زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى إسرائيل، لدعمها والاحتفال معها بالذكرى الستين لقيامها وتأسيسها، أبرز هذه التطورات التي ملأت الفراغ بطريقة تفجيرية، فهذه الزيارة التي تتجاهل نكبة فلسطين، والتي تتجاهل موقف العداء الإسرائيلي ـ العربي الذي لم يجد حلا له بعد، والتي تعلن موقفا مؤيدا لإسرائيل ومعاديا للفلسطينيين والعرب، جاءت مترافقة مع الحدث اللبناني، وتم أثناءها إعلان موقف أميركي، قبل الوصول إلى إسرائيل وبعد الوصول إلى إسرائيل، يؤيد طرفا لبنانيا ضد طرف آخر، ويزيد بهذا الأسلوب من حدة الأزمة اللبنانية بدل أن يحاول إطفاء بعض نيرانها.

سبقت زيارة بوش إلى إسرائيل، زيارتان عربيتان إلى واشنطن، زيارة ملك الأردن، وزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهما زيارتان هدفتا إلى طلب تحرك أميركي ضاغط على إسرائيل من أجل تحريك مفاوضات التسوية، وعاد الزعيمان من واشنطن محبطين ويائسين من توقع أي موقف أميركي إيجابي، وأعلنا بطريقة أو بأخرى أنه ليس ممكنا إنجاز حل مقبول خلال العام 2008.

وتبلورت خلال زيارة الرئيس بوش مواقف سلبية محددة. الموقف الأول عبرت عنه القيادات الفلسطينية المفاوضة، واحدة بعد الأخرى، والتقت كلها عند استخلاص واحد، وهو أن المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية تسير من فشل إلى فشل، وهي تعود إلى نقطة الصفر التي تريد إنتاج «اتفاق مبادئ» جديد يعيد تجربة «اتفاق اوسلو» من أولها. وكان هناك موقف ثان أكثر دلالة، يتعلق بموضوع التهدئة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية. لقد أزعجت إسرائيل آذان العالم أجمع وهي تطالب بالتهدئة، وبوقف إطلاق الصواريخ، وحين جاءها رئيس المخابرات المصرية عمرو سليمان حاملا معه، وبعد جهد كبير بذله، موافقة فدائية إجماعية على التهدئة، فوجئ بالرفض الإسرائيلي لمسعاه. وأحاطت إسرائيل شعار التهدئة بشروط ومطالب جعلته مستحيل التحقيق، فهي تريد التهدئة أولا من دون اتفاق رسمي عليها، وهي تريد التهدئة في قطاع غزة بعيدا عن الضفة الغربية، وهي تريد ربط التهدئة بقضية الأسير الإسرائيلي والأسرى الفلسطينيين، وهي تريد ضمان وقف تهريب الأسلحة عبر الأنفاق، وهي ترفض في الختام ربط التهدئة بفك الحصار وفتح المعابر، وهي تكرر في الختام أنها لا تستبعد اجتياح غزة في أي وقت من الأوقات. وتم هذا الموقف الإسرائيلي المتشدد، بل والمتشنج، في ظل زيارة بوش، إن لم نقل تحت رعايته. وكان كل هذا يتم بينما كانت التصريحات الأميركية، تنطلق من إسرائيل، معلنة تأييدها لطرف لبناني ضد آخر. وبهذا أصبحت السياسة الأميركية، والعدوانية الإسرائيلية، وفشل سياسة التفاوض الفلسطينية، جزءا مكملا للأزمة اللبنانية الداخلية، وعنصرا أساسيا من عناصر التأثير الدولي والإقليمي في تعقيد أمورها.

ولا تكتمل هذه اللوجة من التأثيرات إلا بعد الإشارة إلى تطورين هامين: الأول يتعلق بالموقف الذي اعلنه سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي ضد السياسة الإيرانية، وهي في جزء أساسي منها تعمل داخل لبنان. والثاني يتعلق بالدفع الإسرائيلي لتركيا لكي تقوم بدور وساطة تفاوضية مع سوريا حول الجولان، ثم التصرف بطريقة تسحب الرغبة الإسرائيلية من التداول، بحيث بدت الوساطة التركية عمليا وكأنها تؤزم الوضع بين سوريا وإسرائيل أكثر مما تؤدي إلى تهدئته. وهو وضع لا يمكن عزل تأثيراته عن مجريات الوضع في لبنان.

إن هذه التطورات كلها تتجمع وتلتقي، مؤكدة تراجع دور الوساطة العربية رغم نشاطها الظاهري الذي نشهده، واندفاع العوامل الدولية والإقليمية إلى مقدمة المسرح، حيث الأضواء كثيفة تنير كل جانب من جوانبها. وحين تكون الصورة على هذا الوضع، فإن التطلع إلى صورة مستقبلية جديدة يعتمد أولا وآخرا على أهمية الخروج من تفاصيل الأزمة اللبنانية الداخلية، إلى الإطار الدولي والإقليمي المحيط، وبهدف الفصل الإرادي بين العامل الدولي والعامل الإقليمي، ومن أجل بلورة موقف إقليمي يتعامل مع الموقف الدولي بطريقة ترسم حدودا لحركة كل طرف، تضمن مصالحه، من دون خلق حالات عداء ومواجهة. إن القوى الإقليمية ممثلة بالعرب وتركيا وإيران، مدعوة في ظل هذا التوجه، إلى نوع من الاتصال واللقاء والتفاهم، من أجل رسم سياسة جديدة للمنطقة كلها، وللعلاقات بين الأطراف كلها، تزيل مواقف التوتر والعداء والمواجهة، ويحدد كل طرف فيها ما يزعجه وما يشكو منه من الطرف الآخر، ويحدد أيضا ما يطلبه لكي تكون العلاقات بعد ذلك علاقات حسن جوار تدفع باتجاه الهدوء والتعاون. وفي سياق هذا التوجه، يوضح كل طرف للولايات المتحدة الأميركية حدود ما يمكن قبوله، وما لا يمكن قبوله، من سياستها في المنطقة، ويقفز إلى واجهة التوضيح هنا، موقف جماعي لا بد منه، يقول بوضوح، إن هذه القوى الإقليمية الثلاث، لا تعمل في اتجاه مواجهة فيما بينها، بل تؤكد على العكس أنها تسعى إلى سياسة وئام وتوافق. وينحسر من خلال ذلك أي دور أميركي يعمل بالاتجاه المعاكس، اتجاه التعبئة والمواجهة.

وإذا ما أمكن التوجه نحو سياسة إقليمية من هذا النوع، فإن التطورات ستنعكس فورا على الوضع الداخلي في لبنان، ويمكن حينئذ القول للبنانيين إن القضية اصبحت لبنانية داخلية، وإن الحل أصبح بأيديهم، ومن خلال الحوار الداخلي فيما بينهم. وحين تكون هناك حاجة بعد ذلك إلى وساطة عربية، تكون تلك الوساطة شاملة مصر والسعودية وسوريا، ويكون دور الأمين العام دورا قياديا فيها، باعتباره الممثل الجامع للتوافق العربي.

وإذا لم تبادر القوى الإقليمية إلى سياسة من هذا النوع، فإن الأزمة اللبنانية ستستمر وتتواصل، وستتطور الأزمة اللبنانية نحو أزمة إقليمية أوسع بكثير، هي بالضبط ما تريده الولايات المتحدة وما تسعى إليه، ومن أجل مصالحها التي لا مانع لديها من التضحية بكل المصالح العربية لكي تحافظ عليها. إن درجة العداء التي تعبر عنها زيارة الرئيس بوش إلى إسرائيل في ذكراها الستين، ليست إلا نموذجا لنوع السياسات الإقليمية التي يسعى إليها بين العرب وايران وتركيا. وهذه السياسة بالذات هي ما يجب التصدي له ومواجهته بسياسة إقليمية جديدة تصد مخاطرها.